فخ الاستسلام للمرارة (1/3)

فخ الاستسلام للمرارة (1/3)

12 يناير 2020
+ الخط -
قلت لصديقي إنني لم أسمع عن ذلك الملحن القديم من قبل، ولا أعرف شيئاً من أغانيه، ولذلك أشك في كوني أنسب اختيار لإجراء الحوار معه، فقال غاضباً: "إنت ليك أكل ولّا بحلقة؟"، وذكّرني بأن ما أقوله يمثل نوعاً من التبطّر على نعمة يمكن أن تزول بسهولة، ولتخفيف حدة الموقف ولكي لا يخسرني كـ "عميل" نشط، إن لم أكن الأنشط، قال إن المسألة أسهل مما أتخيل، ولا تتطلب أصلاً معرفة الملحن ولا سماع أغانيه، بل الحصول منه بلباقة على كلمتين يجيب فيها عن الأسئلة العشرة التي كتبتها سلفاً إدارة تحرير الصحيفة، حيث يفترض أن تنشر الإجابات ضمن استطلاع صحفي يشارك فيه ملحنون من أنحاء العالم العربي عن الأغنية الدينية وخصوصيتها وهل هناك مواصفات تشترط في ملحنها ومغنيها وشاعرها؟ 

كان صديقي يغضب حين نطلق اسم "السبّوبة" أو "المرمّة" أو "النحتاية" على تلك المهام الصحفية التي يجلبها لنا، ويفضل أن يسميها "المصلحة"، لأن فيها نفعاً للجميع، لنا كطلبة ندرس الصحافة ونحتاج إلى ممارستها عملياً، ولأخته خريجة كليتنا منذ سنوات، والتي عوضها الله عن عدم حصولها على فرصة تعيين في صحيفة حكومية معتبرة، فرزقها بالعمل في وكالة صحفية تقوم بالتعامل مع الصحف العربية التي ليس لديها مكاتب في القاهرة، والتي يهمها أن تتفشخر على قرائها بتعبيرات مثل "خاص ـ القاهرة" أو "مراسلنا في القاهرة" أو "مكتب القاهرة"، ومع أنها كانت تحصل من عملها في الوكالة على أضعاف ما يحصل عليه رؤساء تحرير طول بعرض في الصحف الحكومية، إلا أنها كانت لا تكف عن الشكوى من كونها تعمل في وظيفة على كف عفريت، ومن الفتات الذي يرميه مدير الوكالة لها بعد أن ينال الهُبَر، حريصة على تأكيد أنها تعطينا نسبة محترمة من فتاتها، لأن الله لا يرضى بالظلم. 

حين جاءت لأخت صديقنا فرصة العمل في صيف 1992 كمشرفة على قسم التحقيقات في مكتب صحيفة إسلامية سعودية التمويل لندنية المنشأ، كانت تصدر عدداً من الصحف والمجلات المهمة، أدركت أهمية النقلة وتحمست لها، فأولمت لنا في بيتها، لكي تقول لنا إننا لن نكون مضطرين من الآن وصاعداً للتعامل مع صحف ومجلات كتيانة، وأنها ستعتمد علينا في تنفيذ ما يطلب منها من تحقيقات من إدارة الصحيفة، وحثتنا على أن نرفع رأسها عالياً، لتتمكن من إبهار إدارة الصحيفة بسرعة التسليم وجودة الأداء وتنوع المصادر، ونبهتنا إلى أن نجاحها في المهمة سيعزز من فرص نقلها إلى مكتب الصحيفة الرئيسي في لندن، أو انتدابها إلى مكتبها الأكبر في السعودية، وإذا حدث ذلك خلال عامين أو ثلاثة، سنكون عندها قد تخرجنا من الكلية، وسينوبنا من الحب جانب، وهو وعد بدا كافياً لكي نتحمل ثقل ظل أفكار التحقيقات التي توكل إلينا، والتي كانت خارج دائرة اهتمامنا، خصوصاً أننا كنا قد تعودنا على العمل مع أخت صديقنا طيلة الأشهر الماضية في موضوعات فنية وثقافية، نحبها ونلتقي من خلالها بفنانين وفنانات وكتاب كنا نتمنى لقاء بعضهم، ولا نجد مشكلة في لقاء أغلبهم.

هكذا، وجدت نفسي أنتقل من تغطية مسرحيات الصيف والكلام عن أزمة الإنتاج السينمائي ومشاكل الخروج على النص المسرحي وزيارة استديوهات تصوير الأفلام ونشر حوارات مع النجمات الصاعدات اللواتي يمكن أن يقبلن بمحاورة طالب صحافة، إلى الاتصال بأساتذة كلية دار العلوم وكليات جامعة الأزهر لأنقل كلامهم الإنشائي الرتيب عن باب الاجتهاد المفتوح على الدوام وتعريب العلوم وضرورة عودة الأندلس وآداب الصيام ومخاطر الطلاق على الأسرة المسلمة، لذلك رأى صديقي أنني يجب أن أكون سعيداً، لأننا أخيراً وجدنا تحقيقاً طرياً نعمل فيه، لكنه قرر أن يدلّع نفسه بوصفه شقيق صاحبة المصلحة، فاختار لنفسه مهمة محاورة ياسمين الخيام وكارم محمود ومحمد قنديل، وطلب مني أن أقوم باستكمال التحقيق بأخذ آراء عدد من أساتذة الأزهر حول رأيهم في الأغنية الدينية وواقعها وماضيها، وأن أحاور من وصفه بالملحن المخضرم عبد الحميد توفيق زكي، والذي قال إن له باعاً طويلاً في الأغنية الدينية، وكانت تلك أول مرة أسمع فيها عنه. 

كانت أخت صديقنا قد خصصت لنا غرفة في شقتها، لنستخدم هاتف منزلها في تخليص شغلنا، خصوصاً ما كان يندرج منه تحت فئة "كلمتين والسلام"، لكن الأستاذ عبد الحميد كان يندرج تحت فئة المصادر التي تكره الحديث الهاتفي، وتحب الحديث المباشر مع الصحفيين، وقد كانت فئة نادرة أغلبها من كبار السن الذين يزعجهم الحديث في التليفون مع من لا يعرفونه، وبعضهم يجدون في اللقاء بالصحفيين فرصة لشغل وقت فراغهم. 

حين ألححت على الأستاذ عبد الحميد أن يرد على أسئلتي هاتفياً، لأنني لا أرغب في تعطيله، قال لي بجدية إن موضوعاً مهماً مثل هذا لا يصح أن نتكلم عنه على عجالة وفي التليفون، وأنه سعيد لأن صحيفة كبيرة مثل صحيفتنا قررت الاهتمام بالأغنية الدينية التي لم يعد يهتم بالحديث عنها أحد، ولذلك فهو ينوي أن يُسمعني حين نلتقي نماذج من تطور الأغاني الدينية التي لحنها عبر السنين، لكي يثبت لي كيف ظلمت الأغاني الدينية، حين ابتليت بملحنين غير متطورين يكرهون التجديد ويدمنون التقليد، على عكس ما قرر أن يفعله حين أخذ على عاتقه مهمة تجديد الأغنية العربية منذ أواخر الأربعينات، ومع أن كلامه بدا لي مبالغاً فيه بعض الشيء إلا أنه أيقظ بداخلي الصحفي الذي نام من فرط النحت والملل، خصوصاً حين حدثني عن تجربته الفنية مع مطربي المفضل عبد الحليم حافظ، ووعدني بمنحي نسخة من صورة له مع "صديقه" عبد الحليم خلال تسجيله أغنية دينية من تلحين الأستاذ عبد الحميد.

انبسطت "الريّسة" بحكاية الصورة التي تجمع "عبحميد بعبحليم"، خاصة أن أرشيف الصحيفة لم يكن يمتلك مثلها، ولذلك تعهدت بمضاعفة مكافأتي لتعويض نفقات التنقل من شارع المحطة بالجيزة حيث أسكن إلى ميدان رمسيس حيث يسكن الملحن العريق. كنت أكره شارع الجلاء أكثر من كراهيتي لميدان الجيزة، وإن كنت أكره أول شارع فيصل أكثر منهما، ولذلك لم أفهم حرص الأستاذ عبد الحميد على أن يؤكد لي وأنا أتملّى منه العنوان، على أهمية أن أدخل إلى بيته من شارع الجلاء، وليس من ناحية موقف سيارات أحمد حلمي، مع أنني كما قلت له لا أمتلك سيارة لكي أقوم بركنها، وسآخذها كعّابي، لذلك لن يفرق الشارع الذي سأسلكه نحو بيته، الذي اتضح أنه أقرب إلى ميدان أحمد حلمي منه إلى شارع الجلاء.

وحين وصلت إلى بيته بعد رحلة مريرة في المواصلات، أدركت أن الرجل السبعيني الذي استقبلني بروب صوفي أنيق محكم الرباط، وبحفاوة كبيرة تأثرت بها، كان يكره موقف سيارات أحمد حلمي مثلما أكره شارع الجلاء، وهو ما ثبتت صحته حين سارع إلى إحكام إغلاق شبابيك صالة بيته قبل أن نبدأ الحوار، وهو ينهال بالسب واللعن على اليوم الذي قرر فيه مسئول أحمق أن يسمح بإنشاء موقف لسيارات الأجرة الذاهبة إلى الأقاليم في ميدان كهذا كان شديد الجمال في الأيام الخوالي، وكان يعتبر خير مدخل إلى حي شبرا العريق، فإذا بالميدان يتحول بفضل ذلك الموقف اللعين إلى مقلب زبالة كبير، مشيراً إلى الوعود التي قطعها العديد من محافظي القاهرة بالقيام بنقل الموقف إلى مكان آخر، يتم فيه إنشاء موقف سيارات وأتوبيسات حضاري، ليخف الزحام عن المكان ويقل تلوثه وصخبه، ويعود ميدان أحمد حلمي إلى عصره الذهبي الذي لم أشهده أنا وأبناء جيلي المساكين.

على عكس محافظي القاهرة  المتعاقبين في فشلهم ووعودهم الكاذبة بخصوص ميدان أحمد حلمي، كان الأستاذ عبد الحميد باراً بوعده حين أسمعني العديد من الأغنيات التي لحنها لعدد من المطربين بعضهم كنت أعرفه وأحبه، لكني لم أكن قد استمعت إلى أغانيه معهم، وبعضهم كنت أمر على اسمه في الصحف والمجلات الفنية دون أن أسمع له الكثير، وبعضهم لم أكن قد سمعت عنه من قبل، وعرفت منه إنهم كانوا مطربين معتمدين في الإذاعة المصرية تسند إليهم الكثير من الأغنيات الدينية والوطنية وأغاني المناسبات، لكنهم مع الأسف لم يحققوا شهرة كالتي نالها مطربون ومطربات أقل منهم في حلاوة الصوت وأضعف في التمكن من الغناء وعفق عُرَبِه. 

لم أخجل من إبداء جهلي الكامل بالأسماء التي تحدث عنها الأستاذ عبد الحميد، ولذلك تحمس الرجل مشكوراً لكي يسمعني شيئاً من أصواتهم التي تغني من ألحانه، بعد أن أنهينا الحديث عن الأسئلة التي جئت لنقل إجاباته عنها، كان مزاجه رائقاً لأنه حدد موعدنا في ساعة عصاري تعقب قيلولته التي شدّد على أنها من أسباب السعادة والصحة وأوصاني بها خيراً ما استطعت، وبدأت أستمع معه إلى أصوات كان بعضها يستحق ما ناله من نسيان يدل على وجود عدالة في الكون، وكان بعضها رائعاً ومتميزاً ولا يستحق ما ناله من تجاهل يشكك في وجود عدالة في الكون، وكان بعضها عادياً جداً يسهل على أذنك أن تنساه، لكنني اكتفيت خلال الاستماع إليهم جميعاً بهز رأسي طرباً، ولم أشارك الأستاذ عبد الحميد في رأيي في أي مما سمعته، لأنني لم أكن قد حصلت بعد على صورته مع عبد الحليم، والتي أصبح حصولي على مكافأتي المضاعفة مشروطاً بتسليمها. 

حين استفزتني مبالغة الأستاذ عبد الحميد في التعبير عن إعجابه بصوت مطربة مغمورة عادية الصوت، قال إنها كانت تستحق الشهرة والنجاح أكثر من شادية وصباح ووردة، قررت أن أرد بشكل مهذب، فذكرته بأن صديقه عبد الحليم لم يشتهر لأنه صاحب صوت قوي مثل كثيرين ممن سبقوه وعاصروه، بل لأنه كان يجيد اختيار أغانيه بشكل يتناسب مع إمكانيات صوته، وبشكل يجعله قادراً على التواصل المتجدد مع جمهوره، لأفاجأ به وهو ينظر لي غاضباً بشكل لم أتوقعه، ثم قال لي وهو يحاول ضبط أعصابه، إنني مثل أبناء جيلي ضحية لعصرنا الذي يشبه مَوقَف أحمد حلمي في عشوائيته وضوضائه، ولذلك لا يستغرب أن أدلي بهذا الرأي، لأنني لو كنت أستمع إلى عبد الحليم في بداياته، لأدركت أنه أضاع بعد ذلك فرصة كبيرة لتقديم فن أصيل وحقيقي، وأسلم نفسه لتجار الفن الذين تأثروا بالموسيقى الغربية وأفقدوها أصالتها وقطعوها بينها وبين تراثها العريق.

للحظات ظننته يقصد كمال الطويل ومحمد الموجي الذين صنعا بدايات مجد عبد الحليم، ثم اتضح أنه يقصد بكلامه الموسيقار محمد عبد الوهاب، الذي كنت قد بدأت أقع في غرامه قبل لقائي بالأستاذ عبد الحميد بسنة، بعد أن ظللت أنفر من موسيقاه وأغانيه لسنين طويلة، ثم اتضح لي إني حرمت نفسي من الكثير من الجمال، فأصبح ينافس بقوة على لقب "مطربي المفضل"، لذلك صعقت وأنا أستمع إلى الأستاذ عبد الحميد وهو يكيل الاتهام تلو الاتهام لعبد الوهاب، كان بعضها المتعلق بمسألة سرقاته أو "اقتباثاته" الموسيقية قد سمعته من قبل كثيراً، لكنني لم أكن قد استمعت من قبل إلى رأي يقطع بأن عبد الوهاب قام بأخذ ألحان من مساعده رؤوف ذهني ووضع اسمه عليها، وهي قضية كانت قد تفجرت قبل سنوات طويلة، وظلت الصحافة تهري فيها على مدى أجيال، دون أن يصدق الكثيرون اتهامات رؤوف ذهني التي بدت لهم غير معقولة ومبالغة في شيطنة عبد الوهاب، لكن عبد الحميد ـ ومن غير أستاذ.. هه! ـ  لم يبد أدنى شك في صدقية تلك الاتهامات، محاولاً أن ينزع عن الأستاذ عبد الوهاب أي فضل في تطوير الموسيقى العربية، مرجعاً نجاحه وشهرته وجماهيريته إلى صلاته بالملوك والأمراء الذين كان مطربهم ونديمهم، وبالصحفيين والإعلاميين الذين كانوا يجاملونه ويخوضون المعارك من أجله. 

كنت قد تعلمت عبر أكثر من تجربة في مشواري الصحفي القصير، أن عليك أن تحتفظ برأيك لنفسك إذا كنت تحاور شخصية ما أو "مصدراً" بلغة الصحافة، مهما بدت لك آراؤه مستفزة وغريبة، وأن عليك في اللحظة التي يصل فيها ضيقك بكلامه إلى ذروته، أن تضع على وجهك قناعاً يمزج بين الدهشة والرضا، مع الحفاظ على هز رأسك من حين لآخر، وإذا رأيتَ أن إيقاع الحوار قد هدأ أكثر من اللازم، فعليك أن تصيغ رأيك الرافض لما قاله الضيف في صيغة سؤال يبدأ بالإشارة إلى أنك تنقل آراء البعض ممن لا تتفق معهم، وأعترف أنني كدت أتنكر لهذه القواعد من فرط استفزازي مما قاله الأستاذ عبد الحميد في حق صاحب "يا دنيا يا غرامي" التي كانت وقتها ولا تزال حتى الآن أغنيتي الأكثر تفضيلاً، لكنني جاهدت نفسي وظللت أستمع إليه حتى جاء بآخر ما عنده، ثم بدأت أنكشه بأسئلة ربما كانت ستكون أفضل وأثقل لو كنت أعرف الكثير عن تاريخه ومشواره، لكن استرساله في الحكي وحماسه له ساعداني على فهم سياق علاقته بعبد الوهاب، والتي كان عبد الحليم حافظ حاضراً بقوة في ثناياها.

...

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.