تعال معي أُريكَ مَلَكاً في مملكتك

تعال معي أُريكَ مَلَكاً في مملكتك

01 يناير 2020
+ الخط -
تعال معي أُريك بشرا لم ترض به، لعلي بذلك أهديك ضميرا نيرا من جودة عالية بدل ذاك الضمير المريض الذي تمتلكه. والذي رفضت الاعتراف بمرضه. فأعلن عن نفسه عنوة في الجسد العليل. اللهم لا شماتة.

هلم بنا أهديك العلاج، فالوقاية فات أوانها؛ إنه على شكل حكاية صبي من مملكتك لا ملامح له. يُصر أمام محل لبيع الحلويات وأنواع الخبز الطري على صاحبته أن تبيعه نصف درهم من "الحرشة": ذلك النمط الرخو الرطب من الخبز المصنوع من الدقيق الممتاز. المطبوخ بالحليب مُزينا بمادة حلويات خاصة تُدعى "ألزا". جعلت رائحتها عيني وأنف الصبي تشخص اشتهاء له. حتى يداه لم تقاوما المنظر، فبدأتا تلمسان المنتوج ومن ورائهما صرخة: "أريد نصف درهم من هذا". فيما يد البائعة تنهره زاعقة. "إنني لا أبيع هذا المقدار. بل درهمان فما فوق".

تقول ذلك بملامح أنثوية فيها الغضب والحقد. فجأة تستدير لتقابل الزبائن الآخرين بابتسامة وكأنها ليست هي من حنقت منذ هنيهة في وجه طفل لا يملك بالمنطق الإنساني صفة زبون. حربائية تجارية. نسفت عهودا من الإيمان بالحنان الأمومي. لو أن الفاعل رجل ببطن منتفخ بارز يجعل صرته ظاهرة لكان أمرا مقبولا.


حدث هذا المشهد بإشراف دندنات المطر الغليظة المتساقطة من السماء اللامبالية بما يقع في الأرض، والمباهية بما سيكتبه الشعراء الشبعانون حروفا في حقها. متناسية بغطرسة الانكماشات والترهلات ذات اللون المائل إلى الصفرة القريب من البياض الشاحب، التي حفرتها في رِجل الصبي العارية المغروسة في حداء بلاستيكي عارٍ خالٍ من الجوارب أو أي أثر لها، منذ تبلل واتسخ الزوج الوحيد الذي يملكه قبل أربعة أيام.

لقد تعوّد على العراء كما تعود على انكماشات رجليه. لعله اعتقد أنها أعضاء عادية أفرزها نموه الفزيولوجي، لذلك لم ينتبه ولم يأبه لرجله، لأنه كان منهمكاً بتلبية نداء عاجل لعضو آخر أقرب إلى قلبه وبالتالي أكثر إثارة لإحساسه، ألا وهو معدته التي تقرقر من الجوع واللهفة إلى نوع خبز لا يصادفه في منزله؛ أي منزل زوجة أبيه. كذلك لأن رجله أبعد مسافة واهتماما عكس ظهره الذي يحمله. ويحمل معه محفظته المسطحة الثقيلة على عموده الفقري المفتقر إلى صلابة العظام. محفظته تلك المليئة بثقوب عديدة، جعلتها مهترئة في حالة يُرثى لها، يبرز منها كيس بلاستيكي أسود لحماية الكتب من قطرات الماء المتسربة (يا ويله لو عاش في فترة زيرو ميكة)، لدرجة أن أجزاء الكيس تظهر فوق ظهره أكثر من ثوب المحفظة. مع ذلك فهو لا يحفل بذلك، لأن منظر المحفظة المثير للشفقة يوجد خلفه، بخلاف سخريات واستهزاءات أقرانه التي يضطر لمواجهة جهنميتها يوميا.

(هل تنام أنت ومحفظتك مع الفئران العديدة التي تؤدي معكم واجب الكراء في "خيمتكم القصديرية")؛ هي واحدة من خرجات زميل غبي لا يكلف نفسه عناء الاجتهاد والتجديد في السب. هو عتاب طالما كرره عليه صاحبنا.

يعرف بحسه الطفولي أن مهنة الأطفال هي السخرية باعتبار أنها شكل من اللعب الجدي بالنسبة لهم، لكن مع صاحبة المحل بدا الأمر مُريباً. ولحسن الحظ كان ثقل المحفظة شديداً ومنهكاً لظهره لدرجة أنسته الإهانة وأغفلته عن علامات الاشمئزاز التي تفننت في إظهارها بحضور "جمهور" الزبائن. وهي بذلك قطعت شوطاً مهماً في هدم ذرات الكرامة الآخذة في التبلور. مع ذلك لم يستسلم، وأبدى مقاومة في طلب نصيبه من الخبز. في اعتقاده لا يوجد رابط بين الرغبة - الحاجة أو بالأحرى الشوق الشديد للخبز والكرامة. قناعة من هذا القبيل قذفت بها مخيلته الأدبية المبكرة التي أسهم في غرزها البرد وتأمله المستغرق في الطريق الطويل ذي الستة كيلومترات بين المدرسة والبيت. لن يخيب العزاء، فهو سيقرأ لاحقاً: "ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان". لكنه سينجر، سينبهرُ أكثر بغسان كنفاني الصارخ مثله: "يا لوقاحتهم.. يسرقون رغيفك.. ثم يعطونك منه كِسرة.. ثم يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم.. يا لوقاحتهم".

أما نحن الحاضرين للواقعة الشهود الدافئين بجواربهم وفي جيوبهم، فقد كان العار مرسوماً على جباهنا، والجبن بادياً في نظراتنا التي ما تجرأنا على إلقائها تجاه بعضنا. تحرجنا من إقدام صبي "جوعان بردان" على المطالبة بحقه وهو مزهو بتغيير قوانين الاقتصاد السائدة القاضية بألا نبيع عشرة ريالات من الخبز الطري. لربما كنا بسماعاتنا وقبعاتنا الغليظة نتبرم من الاستماع لصوت كرامة كأنها عذريتنا فقدناها كل واحد على طريقته حين كنا في عمر الصبي، وهي تنادينا بدون جدوى، وبلا مجيب.

كنتُ استثناء. لأني بدل التعاطف مع الطفل، شتمت السماء التي اختارت توقيتا سيئا للمطر هي الحكيمة في غالب الأحيان. ثم استدرتُ اتجاه الأرض لألعنها. هي التي ترضى وتقبل فوق سطحها بوجود أطفال هم التجسيد الفعلي للملائكة في طهارتهم. لا يجدون درهماً لشراء الخبز. وفي نفس الوقت تكون رخيصة لأنها تتقبل وجود ملوك بغنى فاحش وبفحش غني لا يعلمون بوجود هذه الملائكة. اللهم لا شماتة..