أدباء ونساء (1)

أدباء ونساء (1)

08 سبتمبر 2019
+ الخط -
خلق الله آدم وحواء عليهما السلام، ومن ذريتهما محسنٌ وظالمٌ لنفسه، وحاول الرجل فهم المرأة، وحاولت المرأة احتواء الرجل، وأغلب المحاولات تنم على تباين في الطرق والنتائج، ولأن الأدباء يمثلون قطاعًا له تأثيراته في المجتمع؛ فإننا نطوِّف في رحاب علاقة بعض الأدباء بالمرأة، ونرصد ملامح متنوعة، ولا نتخذها قدوةً ولا مثلًا، بل المراد فهم كيفية تفكير المبدع، وتأثيرات البيئة المحيطة في نتاجه الأدبي والفكري.

ونبدأ مع سومرست موم؛ ففي عام 1927، وبعد زواج استمر 12 سنة، طلَّق سُومَرْسِت موم زوجته سيري برناردو، وهي ابنة طبيب مشهور، وأنجب منها ابنته الوحيدة ليزا، وقد أطلق على ابنته اسم بطلة قصته الأولى "ليزا من لامبث". بعد الطلاق، سأله الصحافيون: لماذا لا تتزوج مرة أخرى؟

أجاب موم "لقد عرفت المرأة مرة واحدة، وارتكبت خطأ كبيرا عندما تزوجتها، ولكني فعلت ذلك لأن سيري كانت تهدد بالانتحار إذا لم تنتهِ صداقتنا بالزواج! ولكني اكتشفت بعد ذلك أن هذه وسيلتها مع غيري أيضًا من الرجال؛ فقد حاولت أن تنتحر وهي تحمل اسمي عندما هجرها صديقها الفرنسي، فألقت بنفسها من نافذة البيت في الدور الثاني، ولكنها نجحت فقط في كسر معصمي يديها".


وهذا يفسر النظرة الناقمة لسومرست موم على المرأة، ورسمه صورة غير لائقة لها في كثير من قصصه، وكان يقول إن حبه للمرأة من جانب واحد، وأنه يعرف أن المرأة تنفر منه، وتفسيره مبني على مظهره؛ فهو ضعيف البنية جاحظ العينين، ويعاني من حبسة في لسانه تحول بينه وبين الاسترسال في الحديث، وتفرض عليه جدارًا من العزلة بينه وبين المجتمع والمرأة.

ربما تأثر سومرست بخيانة سيري؛ فخرج من تجربته الخاصة ولم يضعها في قالبها الطبيعي، وإنما ألبسها لبوس التعميم الفضفاضة، وخرج على المجتمع برأي صادم، فأنكر قيمة الروابط الزوجية، وقال إن نظام الزواج سيزول مستقبلًا، وعلل ذلك بأن المفاهيم الأخلاقية متغيرة دومًا! ويؤمن سومرست بمبدأ اللذة، واللذة على إطلاقها؛ فاللذة الجنسية والفكرية والمادية والمعنوية، المهم أنه يطرب للمبدأ بقطع النظر عن تفاصيله.

توفيت سيري عام 1955، وقد تركت في نفس موم أثرًا ينعكس في قصصه، ويتطرق سومرست للمرأة واللذة الجسدية في صور ساخرة، والنساء في قصصه يفشلن كزوجات أو أمهات أو صديقات، ومن آرائه أن المرأة تحب الرجل الصامت؛ لأنه يتيح لها الفرصة للحديث كما تهوى.

وفي شهري سبتمبر وأكتوبر 1962، نشر موم في جريدة "الصنداي اكسبريس" اللندنية فصولًا من حياته مع سيري، وكانت تحمل قدرًا كبيرًا من الطرافة، وأطرف ما فيها رسالته التي كتبها إلى سيري، وقد نشرها بأكملها في الجريدة. لما بلغ الثمانين، قال إن وفاة أمه كانت أعنف صدمة تعرض لها في حياته.

تشارليز ديكنز (1812- 1870)

أثناء كتابته "بكويك"، تعرَّف إلى عائلة رجل مسن يدعى هوجارت، كان هوجارت قد تخطى الخمسين، وزوجته ابنة جورج تومسون مؤرخ حياة الموسيقار بيتهوفن، ولهما ثلاث بنات؛ كاترين (26 عامًا)، وماري (16 عامًا) والطفلة جورجينا.

عاش ديكنز مع عائلة هوجارت، وأحبَّ كاترين حبًّا جما، وتزوجها في 2 إبريل 1836، وبدا أن حياته المقبلة ستشهد استقرارًا غير مسبوق، وبعد مدة شهدت حياته انقلابًا غير مسبوق؛ فإذا بجذوة الحب تمّحي تمامًا، وخلال الأيام الأولى لزواجهما يكتشف أنه لم يكن حبًّا حقيقيًا، بل كان مجرد نزوة أو إعجاب فحسب!

ويتعرف ديكنز إلى امرأة زلزلت حياته، إنها إلين ترنان، وهجر كاترين لأجل عيون ترنان، ولم تفلح محاولات كاترين في اجتذابه لساحتها مرة أخرى، وباءت محاولات إثارة غيرته بالفشل، واختار أن يكون إلى جانب ترنان. أنجب من ترنان صبيًا خطفه الردى في عمر الزهور، وأكب على العمل ليشغل نفسه.


بين تولستوي وتشيخوف

في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ارتفعت شهرة تولستوي وتشيخوف، ومع انتمائهما لمدرسة واحدة الواقعية النقدية -بل إنهما أكبر ممثليها-، لم يمنع ذلك من اختلاف رؤيتهما للمرأة؛ فيرى تولستوي "إن دور المرأة يجب أن يظل دائمًا من خلال أولادها"، بينما يقول تشيخوف "إن سعي المرأة إلى التعليم والمساواة في الجنس، أتفهمه كسعي تجاه العدالة".

عام 1886، يعد بمثابة عام الحسم في قضية تحرير المرأة؛ فقد أغلقت الجامعات أبوابها في وجه المرأة، وتناولت الأقلام القضية في مختلف الصحف..

بطلات أعمال تولستوي (ماشا في السعادة العائلية 1853)، وناتاشا في الحرب والسلام 1869، وكاتيوشا في رواية البعث 1899 يؤكد أن المرأة الحقيقة عند تولستوي تتمثل في دوري الزوجة والأم، أما الخروج للعمل والاختلاط بالمجتمع فليس شأن المرأة على الإطلاق.

استقبل تولستوي قصة "الحبيبة" لتشيخوف بحماس منقطع النظير، وأثنى عليها طويلًا لاتفاقها مع رؤيته للمرأة، ورفعها إلى مصاف الأدب العالمي؛ فإن أولنكا -بطلة القصة- مسالمة وديعة مكسورة الجناح، تستمد شخصيتها ممن حولها، لا تتمتع بأي قدر من استقلالية الفكر والرأي، وهي صفات يحبها تولستوي في المرأة، ويراها لصيقة بها ولا يجدر بها الانعتاق منها، وبلغ من شدة إعجابه بقصة الحبيبة، أن تولستوي كان يعيد قراءتها أمام أصدقائه ومقربيه.

في قصته إدياندا (1895)، أفصح تشيخوف عن موقفه من تعليم المرأة ومطالبتها بحقوقها في قوله "إن سعي المرأة إلى التعليم والمساواة في الجنس، أتفهمه كسعي تجاه العدالة"، وفي قصته العروس (1903) تعرَّض لمسألة تعليم المرأة، وتذعن بطلة القصة ناديا لمقولة العجوز ساشا "يا عزيزتي! ينبغي أن تدركي كم هي ملوثة ولا أخلاقية حياتكم الفارغة هذه"، وتخلع عنها أردية الكسل والدعة الرخيصة، وتخرج طلبًا للعلم.

إبراهيم عبد القادر المازني

عن نفسه يقول: "ما أكثر ما عشقت في السنوات الأولى من عمري". رثى زوجته الأولى رثاءً مريرًا، وقد ماتت أثناء ولادتها على يد طبيب نساء مخمور، ثم تزوج أخرى وكان يذكر الأولى بخير. وللمرأة في حياة المازني الأدبية ركن خاص، وهو يكثر التنويه بها والإشارة إليها، وهذا ما دفع توفيق الحكيم إلى أن يقول إنه (يكذب) وإن الخيال ليختلط بالحقيقة في كتابته حتى ليتعذر الاهتداء إلى المرأة التي كان لها تأثير في حياته.

ولما أهدى الحكيم المازني كتابه "راقصة المعبد"، رد المازني باقتضاب على دعوى الحكيم، ثم أفرد لها مساحة أخرى فقال: "أولًا أنا لا أرتاح لتناول حيوات الناس الخاصة، وليس كونهم أدباء أو مشهورين لسبب ما، بمجيزٍ في رأيي أن نجعل من حياتهم الخاصة وأحوالهم الشخصية معرضًا، وهذا عندي فضولٌ أكرهه، وأقل ما فيه أنه يفقد المرء حريته واستقلاله، وإذا كنت أروي كثيرًا مما أكتب على لساني، وأورده بضمير المتكلم؛ فليس معنى هذا أن ما أرويه وقع لي، وإنما معناه أني أرتاح لهذا الأسلوب في القصة، وأراه أعون لي على تمثُّل ما أحاول وصفه وتصويره، فليس في ما أروي شيء شخصي، وكثيرًا ما نبهت إلى هذا، ولكني أهمله أحيانًا اعتمادًا على فطنة القارئ. ثم إني ثانيًا، لا أرى الأستاذ توفيق الحكيم موفقًا في رأيه، فليس من الضروري أن يكون للرجل امرأة في حياته، وللمرأة رجل في حياتها.

توفيق الحكيم

ما كتبه الحكيم عن والدته -في "سجن العمر"- ينم عن علاقة لم تكن سوية ولا مشبعة، ويعود ذلك إلى شخصية والدته -تركية الأصل- القوية، ويراها -وفق تعبيره- بركانًا ثائرًا، وتملك قدرًا من الأثرة والعناد والاهتمام بالمظاهر، مع حب التفاخر والتعالي على الآخرين. انعكس ذلك على حياة الحكيم؛ فنشأ منطويًا خجولًا يأنس للعزلة، ولم يحظ بحنان أمه على الرغم من كونه وحيدها يومها قبل قدوم شقيقه زهير.

يحدثنا أنها منعته من أشياء محببة إلى نفسه، كأن يعزف على العود أو يتردد على دور السينما، وكان "نَفَسُها حامي" حتى على والده، ويذكر لها بخير القصص التي كانت تحكيها له في طفولته، وكان لحكاياتها تلك أثر كبير في تحريك خيالاته، وتكوين حاسته الفنية المبكرة.

في كتابه "مدرسة الشيطان"، يحدثنا توفيق الحكيم عبر قصة "راديوم السعادة" عن مشاعره وقد استولت فتاة في بعض حانات جبال الألب، ويتشوّف للحديث معها حديث المشغوف، ثم يحدث أن تحدثه الفتاة ويطير فؤاده فرحًا، لكنه لا يريد أن يتحدث إليها مرة أخرى!

ماذا جرى؟ أليست هي التي تاق للوقوف معها والحديث إليها؟ بلى، هي ذاتها، لكنه يتحول تحولًا غير مفهوم، ويغير الحانة. الشعور نفسه تمالك تشارليز ديكنز، وإن كان قد تمادى في مشاعره لمدة أطول، إلا أن النهاية واحدة عند الرجلين، ولم تكن قصة من كتابة ديكنز، إنما كانت قصته!

في فرنسا، تعرف الحكيم إلى فتاتين إحداهما الألمانية "ساشا شوارتز"، والأخرى التي تركت انطباعات قوية في نفسه "إيما دوران"، وقد أُخِذَ الحكيم بجمال ساشا أول الأمر، لكنه بعدما ذاق عسيلتها كتب لصديقه الفرنسي أندريه "اللحظة الوحيدة التي أحببتها فيها حقًا، ساعة دخولها البار لأول مرة مع صديقها الإسباني، إنها كانت رائعة؛ لأنها كانت شيئًا من السماء مثل كوكب يتلألأ لا يمكن أن تمتد إليه يدي، ولكن هذا الكوكب ما لبث أن وقع في كفي؛ فإذا هو مصباحٌ ضئيل، يحتاج إلى يدي القاصرة لتملأه بالزيت، وتحميه من التحطُّم والسقوط.." (زهرة العمر).

أين ذهبت عواطف ديكنز المتأججة؟ ألم يكتب لكاترين رسائل الشوق الملتهبة؟ وما الذي زهَّده فيها ورمى به تحت أقدام غيرها؟ ولماذا اقتنص موم زوجة غيره ثم تركها؟ ولماذا تبرأ من نسب ابنته منها؟ وكيف للحكيم أن يشن على أمه حملة هوجاء؟ وما بواعث البون الشاسع بين نظرة تولستوي وتشيخوف للمرأة؟ وماذا عن أدباء آخرين؟ الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها في الجزء الثاني من هذه السلسلة؛ فإلى لقاءٍ قريب بحول الله تعالى وقوته.

دلالات