الألفاظ المربدية

الألفاظ المربدية

04 سبتمبر 2019
+ الخط -

حسن أفندي عبد الباسط الحُوَيّ (1829-1882) رجل له ذوق خاص، كان شاعرًا متوسط الأداء، ثم تخصص في الهجاء وسلاطة اللسان، وقد رُزِق حضور بديهة وسرعة جواب، ومع إجادته إلا أنه كان مقلًا. ساقته الأقدار للعمل بالإسكندرية رئيسًا لقلم الضبطية، وتعرَّف إلى عددٍ من محبي الشعر، وتآلفت أواصر علاقته ببعض الشعراء، منهم الشاعر المعروف مصطفى صبحي باشا؛ فألفوا رابطة خلعوا عليها اسم "رابطة المربد".

العالم العربي بأسره يعرف مكانة المربد في أدبنا القديم؛ فهو سوق انطلقت منه شرارة غضب جرير بن عطية، وقد أوقعه ابن الراعي النميري على الأرض؛ فاغتاظ جرير وأطلق في النميري نيران شعره، ومن هذه الحادثة عرفنا القصيدة الدامغة، وقد وضع بها جرير بني نمير أبد الدهر على اتفاق أهل الأدب.

مربد جرير سوقٌ بالبصرة وميدان تلاقت فيه القرائح، وهاجت فيه العواطف والمشاعر، وتناطح فيه جرير والفرزدق والأخطل وغيرهم من أعلام الشعر الأموي، وقبل ذلك كان سوق عكاظ ميدانًا لمناقشة الرسائل الشعرية؛ فيعرض الشعراء نتاج قرائحهم على أبي أمامة زياد بن معاوية (النابغة الذبياني)، وقد نصبت له قبةٌ من أدم ليحكم بينهم؛ فيا لسعادة من استحسن النابغة شعره!


ولا بأس أن نقف هنا قليلًا؛ فإن النابغة يستحق ذلك، وفي بعض السنوات تقاطرت الوفود إلى قبة النابغة، وكلهم يرجو أن ينال إجازة الشعر منه، وهو امتحان يضارع الامتحان الشفوي في الجامعات بل هو أصعب، وربما يعادل الحصول على الماجستير والدكتوراه! ويدخل أبو بصير ميمون بن قيس (الأعشى)، وأسمع النابغةَ شعره؛ فقضى له وتنبأ بمستقبلٍ شعري فذ للأعشى، وبعد قليل تدخل عليه تماضر بنت عمرو بن الشريد (الخنساء)، وتنشد ما قالته في أخيها صخر.

بعد أن انتهت الخنساء من إنشادها، شهد لها النابغة بالتميز في عالم الشعر، وقال مقالته الشهيرة: "لولا أن أبا بصير أنشدني قبلك؛ لقلت إنكِ أشعر الجن والإنس"، وكان في المجلس حسان بن ثابت - الصحابي الأنصاري لاحقًا - فدار بينه وبين النابغة حديث، وأفحم النابغة فيه ابن ثابت، وأدرك حسان أن النابغة يقضي وينقد وفق معايير دقيقة، ولهذا النقاش حديث قريب.

نعود الآن إلى ما انقطعنا عنه، وأقصد مربد الإسكندرية، وله شأن مغاير في دنيا الشعر؛ فكان الحُوَيّ وصبحي وجوقتهما يجتمعون لارتجال الشعر، ويعيِّنون عدد الأبيات والوقت المطلوب لنظم الشعر؛ فإن تعذرت على أحدهم قافية وأعجله الوقت، ارتجل كلمةً لا معنى لها أو في معنى لا يوافق السياق وتمَّم بها البيت؛ فاجتمعت لهم من ذلك ألفاظٌ غريبةٌ مضحكة سموها بالألفاظ المربدية! ثم نعتوها لاحقًا بالمربديات الإسكندرانية تمييزًا لها عن مربد البصرة.

وبعد مدة، ضاقت السبل بالحُوَيّ في الإسكندرية؛ فانتقل إلى الزقازيق وافتتح بها دكان عطارة، ولأنه لا يملك أي خبرة في الصيدلة؛ فقد أحضر معه عددًا من الكتب منها مفردات الطب وقانون ابن سينا، وكلما جاءه أحدهم يطلب عقارًا ما، يسأله الحُوَيّ عن سبب حاجته إليه، ثم يقوم إلى الكتب ويخرج دواعي الاستعمال ومزايا العقار، ويقدِّمها وإن لم يكن هذا مطلب السائل؛ فهو يؤمن بنظرية البديل في نفس قوة العقار الموصوف، ولربما أوحى إلى الصيادلة من بعده بهذه الفكرة الجهنمية!

نخلص من ألفاظ الحُوَيّ إلى أنها أقرب إلى الحلمنتيشي منها إلى الفصيح، يراد بها الحشو وملء الفراغ وإكمال الأبيات، وإن لم تكن لها دلالة أو معانٍ بالمرة. إنها ضرب من الكلام غير المفهوم، وقد يتوهم السامع أنها فصيحة لغرابتها، واللغة واسعة ولا يحيط بها - والعهدة هنا على الإمام الشافعي - إلا نبي؛ فيصيخ المرء السمع للكلمة الغريبة، وربما يستحسنها ثم يلوكها في مجالس العامة والخاصة، إلى أن يستوقفه أحد الحاذقين بالضاد ويبيِّن عوار هذه الألفاظ البراقة الغريبة.

في هذه الفئة، وأقصد من يستعملون كلمات رنانة لا تخدم الفكرة بحال، فإنك ترى كثيرين على الشاشات وفي الإذاعات، وتقرأ كذلك لمن يحشدون أصنافًا من البديع والمحسنات اللفظية والزخارف الخارجية؛ فإن عصرت ما قيل أو كتب عصرك لليمونة طازجة، لم تجنِ إلا قطيرة (تصغير قطرة) لا تسمن ولا تغني من جوع، ويتبادر إلى ذهنك قول القائل "ريش على مفيش" أو كلمات سمينة وأفعال هزيلة.

دلالات