"لا تذهب نفسك عليهم حسرات"

"لا تذهب نفسك عليهم حسرات"

26 سبتمبر 2019
+ الخط -
على الورق أو على سطح اللسان يجري الحل المفترض سهلاً: لا تتوقف عن الدفاع عن مبادئك، لكن اجعل مسافة بينك وبين ما تحارب من أجله، ولا تأخذ ما يقال عنك بشكل شخصي، خاصة وقد أصبح استهدافك بسبب رأيك شيئاً معتاداً في عالم "السوشيال ميديا"، عليك أن تتذكر أن الذي يقوم بتخوينك أو تكفيرك أو لعن سنسفيلك، ربما لا يكون معنياً بشخصك، فأنت بالنسبة له رمز لما يكرهه من مواقف وآراء، والسوشيال ميديا تجعلك هدفاً يسهل الوصول إليه نظرياً، وما قد يقوله لك ذلك الكاره بجلافة وعنف في عالمه الافتراضي، لن يستطيع أن يقوله لآخرين في عالمه الواقعي، قد يؤمنون بما تؤمن به، ربما كانوا من أقاربه أو رؤسائه أو من تجمعهم به علاقات ومصالح، ولذلك لن يستطيع أن يقول ولو بتهذيب ما يقوله لك بحدة وشراسة.

لكن كيف تستطيع تطبيق كلام لطيف كهذا في واقع يزداد شراسة؟ بالتأكيد، لو كان لدي وصفة مضمونة النجاح لكتبتها وترجمتها إلى الإنجليزية، لعلها تصبح كتاباً مليوني المبيعات، لدي صديقة أمريكية كتبت كتاباً مليونياً غير حياتها إلى الأفضل، مع أنه لم يكن من كتب التنمية الذاتية التقليدية، بل كان كتاب سيرة ذاتية يتحدث عن قائد نجا بمن هو مسئول عنهم من كارثة محققة، وحين تشجعت وقررت أن تكتب كتاباً عن التنمية الذاتية بشكل مباشر، لم ينجح الكتاب، مع أنني حين قرأته اندهشت من تميز المنهج الذي يقدمه الكتاب وقدرته على مساعدتك في التعرف على تعقيدات النفس، ومحاولة التعامل معها، وحين حاولت فهم أسباب فشل الكتاب، قلت لنفسي ربما كان الناس يحبون القصص التي تساعدهم على فهم أنفسهم، أكثر من المناهج المباشرة التي تحاول تفهيم أنفسهم لهم.


أصبحت أتخذ من ذلك الواقعة دليلاً إضافياً على وجود رسائل ساخرة مستمرة يبعثها الكون إلى أصحاب المنطق المتماسك دائماً، لتذكيرهم باستحالة تلخيص الكون "في قشرة جوز"، لأن أي معرفة لحقائق الحياة لن تمنع خلو النفس من الألم والحسرة، وأي تجاهل كامل لحقائقها لن يديم على المتجاهل البهجة وخلو البال، ولذلك على الإنسان أن يحضر نفسه دائماً لأقسى الاحتمالات، وأن يفسد نشوة الحلم الجامح بقليل من الواقعية المزعجة، ويفسد رتابة الواقعية الراكدة بكثير من الأحلام الممكنة وقليل من الأحلام الجامحة، ويستعد دائماً للتعايش مع الحسرة التي تصيب الإنسان حين ينسى تواضع قدرته على التحكم في كل شيئ في الكون.

في أيام عزه تجلى الخال عبد الرحمن الأبنودي في وصف مخاطر حالة التوحد التي تحدث بين الإنسان وأحلامه العامة، حين قال:

"تتعسني فكرة إني هموت
قبل ما اشوف - لو حتى دقيقة-
رجوع الدم لكل حقيقة..
وموت الموت
قبل ما تصحى..
كل الكتب اللى قريت
والمدن اللي ف أحلامى رأيت
والأحلام اللي بنيت
والشهدا اللي هويت
والجيل اللي هدانى
والجيل اللي هديت
قبل ما أملِّس ع الآتي
وادفن كل بشاعة الماضي في بيت

حاقولها بالمكشوف:
خايف أموت من غير ما اشوف
تغير الظروف.
تغير الوشوش..
وتغير الصنوف
والمحدوفين ورا
متبسمين في أول الصفوف.
خايف أموت وتموت معايا الفكرة
لا ينتصر كل اللي حبيته..
ولا يتهزم كل اللى كنت أكره..
اتخيلوا الحسرة.. اتخيلوا الحسرة"

بعد أن استعدت هذه القصيدة التي اخترتها مقدمة لأحد كتبي قبل سنوات، تذكرت الحسرة التي أصابتني حين قرأت الأشعار الركيكة التي كتبها أستاذي وصديقي الأبنودي في مديح عبد الفتاح السيسي، فذهبت لأتلهى عنها بالبحث عن استخدامات كلمة (الحسرة) في العديد من النصوص التراثية والأدبية، فقابلت ذلك التعبير الجميل: "فلا تذهب نفسك عليهم حسرات" والذي جاء في الآية الكريمة: "أفمن زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يُضلّ من يشاء ويهدي من يشاء، فلا تذهب نفسك عليهم حسراتٍ إن الله عليم بما يصنعون"، وعرفت أن بعض القراءات تضع الضمة على التاء في كلمة "تذهب"، وبعضها يضع الفتحة، والقراءة الأولى تزيد من تأثير الشخص في اختيار نفسه للحسرة، والقراءة الثانية تجعل زمام الحسرة في يد النفس، فيكون على الإنسان أن يقاومها قبل أن تذهب حسرات.

حين بحثت عن سبب نزول يرتبط بتلك الآية، وجدت من يقول إنها ارتبطت بتمني النبي عليه الصلاة والسلام لأن ينصر الله دينه بعمر بن الخطاب أو أبي جهل عمرو بن هشام، فهدى الله أولهما وأضل الآخر، لكنني وجدت أن تلك الرواية تحد من رحابة المعنى الموجود في الآية، والذي يشير إلى ارتباط النبي عليه الصلاة والسلام بقضيته إلى حد بعيد، جعله يكاد يذهب نفسه من الحسرة على من ضل وأضل، فجاءت الآية لتنبهه إلى محدودية دوره، وتذكره بأن اندفاعه وراء قضيته واحتراقه من أجلها، لن يجعله بالضرورة سبباً في انتصارها، فللنصر والهزيمة أسباب كثيرة أبعد من رغبات الإنسان ومخاوفه.

لسنا أنبياء ولا حكماء، وكل محاولاتنا للاقتداء بالأنبياء والتشبه بالحكماء، ستصطدم يوماً ما بحقيقة عاديتنا وهشاشتنا، وبأننا أضعف من أن نقاوم التورط عاطفياً فيما نؤمن به، ولذلك تجد أغلبنا يحب الحديث عن مرارة الهزيمة، أكثر من تفضيله الحديث عن أسطورية المقاومة التي لا ترتبط بالنتائج، لأن قلوبنا ستظل معلّقة بالنتائج، مهما قيل لنا أو قلنا لأنفسنا أننا لسنا مسئولين عن صنعها، وأن علينا أن نواصل السير على الطريق مهما حدث، ألا ترتبط حياتنا منذ بدأت بفكرة النتيجة؟ فكيف يمكن لنا أن نقرر الآن تجاهلها حين تأكد لنا أنها لن تكون دائماً كما نرغب، وإذا قررنا أن نستمع إلى من يطلب منا ألا ننشغل بغير الطريق، فأي طريق إنساني هذا الذي يمكن أن يضمن الانشغال به دوام النجاة من الحوادث المريعة والقدرة على تفادي المنعطفات الحرجة والمطبات خازوقية الطابع؟ وإذا صدقنا من يقول لنا إننا قادرون على صناعة البهجة، فهل يمكن أن نصدق من يقول لنا إننا قادرون باتباع منهج ما على الإفلات الدائم من وطأة الحسرة؟

لأننا لسنا أنبياء، لسنا مطالبين أصلا بالحكم على الآخرين بالهداية والضلال، مهما بدا لنا إطلاق تلك الأحكام سهلاً ومخففاً لآثار الحسرة، بل نحن مطالبون بأن نبحث في دنيانا عن من يحقق أحلامنا المشروعة ويعدنا بالتنمية والعدالة ويتحلى من أجل تحقيق وعوده بالكفاءة والمهارة، وهي محاولات عصيبة ومراوغة، لن تنفعنا فيها كتب التنمية البشرية ولا كورسات التعرف على النفس، لأن تحقيقها سيصطدم بمصالح عاتية وشبكات معقدة من العلاقات والتربيطات، ستجلب لمن يصطدم بها الكثير من الحيرة والحسرة، مهما بدا في لحظة ما قادراً على استخدام عصا الحكمة في الإمساك بالعالم، أو تخيل إمكانية السيطرة عليه بغمره بالحب، أو توهم فك ألغازه بالاقتباسات والحكم والقراءات.

وإذا كان إدراك ذلك محبطاً لأحلامنا على المدى القريب، فربما استطعنا على المدى البعيد تخطي ذلك الإحباط، حين ندرك أن أحوال عالمنا أصبحت من السوء بمكان لم يعد يتيح لنا رفاهية "الركن على جنب"، وأن بقاءنا على قيد الحياة، مجرد البقاء على قيد الحياة، لم يعد يفرق معه كثيراً رؤيتنا لأنفسنا: هل نحن أبطال أم مهزومون؟ ضحايا أم جلادون؟ صابرون أم يائسون؟ ألم يقلها أبونا صلاح جاهين من قبل وقد كان وقتها في عز شبابه:

"صبرك ويأسك بين إيديك وانت حر
تيأس ما تيأس الحياة راح تمر
أنا شفت من ده ومن ده عجبي لقيت
الصبر مر وبرضك اليأس مر
عجبي"

وهي أبيات لا أعدكم أن تأملها والاقتناع بها، سيغير حياتكم فوراً وإلى الأبد، فهي لم تغير حياة كاتبها، ولم تجلب له السعادة، ولم تساعده على الإفلات الدائم من وطأة الحياة، لأنها كشأن غيرها من الحكم والوصايا والنصائح، قد تساعدنا على التقاط الأنفاس في صراعنا مع الحياة، لكنها لن تعفينا من خوضه بشكل دائم، "فاتخيلوا الحسرة، اتخيلوا الحسرة"، ثم استعينوا على الشقا بالله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.