حظ بائس!

حظ بائس!

24 سبتمبر 2019
+ الخط -
من النوادر التي لا تفتأ ماما تحكيها كلما جئنا على سيرة طرق التربية وما تتداوله الثقافات كل فترة من موضات بخصوصها، أن السيدات في السبعينيات والثمانينيات كن يتناقلن معلومة مفادها أن أسوأ ما تعوِّدين عليه طفلك حديث الولادة هو إرضاعه كلما بكى وطلب الرضاعة.

وأن الطب الحديث "أيامها" كان ينصح بتحديد عدد ومواعيد الرضعات بصرامة، والتمسك بذلك مهما قاوم الرضيع في البداية، لأنه سيستسلم للنظام أخيرا، وستربح الأم ساعتها وقتها ونومها وصحتها. أما الغلبان الصغير، فلم تكن ماما تفهم ماذا سيربح بهذه الطريقة، إلا لو سددنا تلك الخانة بأي حِجة ماسخة من نوع أنه سيتعلم مبكراً كيفية التحكم في شهواته مثلاً!

والأمر نفسه كان يقال عن تنظيم حمل الرُضع والصغار ووضعهم في أسرّتهم الخاصة للنوم في مواعيد لا تقبل المساومة. وكانوا ينصحون الأم حديثة العهد بالأمومة ورعاية المواليد بأن تقّوي قلبها وتترك الطفل يبكي ولو لساعات، ما دام قد حصل على نظافته وطعامه في مواعيدها، وأن تتوقف عن حمله وضمه عفويا في أي وقت حتى يعتاد على النظام وينخرط في الخطة الموضوعة كعقرب ساعة مطيع.


وتحكي أمي بتواضع وشفقة أننا لم نكن لنهون عليها أبدا لتتركنا نبكي بالدمع السخين و"البرابير" و"شحتفة" الرُضع التي تذيب القلوب. فكان أن فشلت دائما في أن تنظم هاتين المسألتين، أو أن تكون الأم العصرية التي كانوا يسوّقون لها أيامها.

وتتذكر أن إحدى صديقاتها العربيات ممن تنقلن بين بلدان الخارج لسنوات طويلة كانت أجرأ وأكثر تمسكا بصرعات الطب والإعلام تلك. وكانت تجادلها بشراسة في صحة ما يروجونه وفائدته العميمة على الطفل والأم بل وعلى الأسرة كلها. وكانت تدلل على مصداقية ما تقول بأن تتحداها بأنها- أي ماما- لا تستطيع قضاء ساعتين مع زوجها خارج البيت بسبب همّ حمل الصغار وبكائهم ورضاعتهم ودلعهم الذي نتج عن التراخي وعدم الحزم والالتزام بالنظام، فيما تفتخر هي بأنها نجحت في تعويد طفلتها، ذات الشهور المعدودة، على الرضاعة المنظمة والنوم المنظم لدرجة أنها وزوجها أصبحا قادرين على وضع الصغيرة في فراشها في الموعد المحدد، والاطمئنان إلى أنها ستنام تحت أي ظرف كان، فيخرجان لقضاء سهرة نهاية الأسبوع مع أصدقائهما ضامنين أن الرضيعة بخير.

ولأننا لا نتعلم التواضع للحياة ولا نفهم قصور إدراكنا إلا بالتجارب القاسية، فقد هاتفت تلك الصديقة أمي في أحد الصباحات وهي باكية مضطربة، لتخبرها بأنها عادت ليلة أمس من عشائها مع زوجها بالخارج كعادتهما كل عطلة، والرضيعة متروكة للنوم في فراشها بغرفتها، لتجد سقف صالة الشقة الرئيسية كله مهدّم على الأرض، والأثاث الخشبي الثقيل مفتت تحته كما لو أن إعصارا أكله.

وتردف بأن الصغيرة كانت غارقة في البكاء من صدمة صوت الانفجار المدوي الذي نتج عن سقوط طبقة أسمنت السقف الثقيلة. ثم بكت لأمي بمنتهى الفزع والندم وهي تصف كيف أنها ضمت الصغيرة المنفرطة في البكاء، وتخيلت لو أن سقف حجرتها قد حدث له ما حدث بالصالة، وأنها ظلت تحملها طول الليل وتحتضنها وتبكي خيالات الرعب تلك ولم تستطع النوم.

وغالبا ما تحكي ماما مثل هذه الحكاية، في ظني، لكي نتعاطف مع جهدها وحنانها معنا صغارا وكبارا، فنحبها أكثر. ولو درت لعرفت أننا نبذل حبات قلوبنا تحت قدميها والله.

لكن الظريف أنني أسمعها كل مرة، فأنصرف عن التعاطف معها لأتعاطف مع نفسي. وأتذكر حظنا البائس، نحن أمهات التسعينيات والألفية، الذي جعل الطب والمجتمع والإعلام أيامنا تدير بوصلتها مئة وثمانين درجة ليكتشفوا فجأة، سبحان الله، أن أفضل شيء للمولود هو حمله وإرضاعه وقتما يطلب جنابه في ليلٍ أو نهار. وأن إغداق الرضاعة والحمل للطفل "عمّال على بطّال" هو كلمة السر التي ستخرج للوطن جيلا من الأصحاء النفسيين والبشر المذهلين. وأن غير ذلك جريمة نكراء في حق معاني الطفولة والأمومة كلها. وعليه فقد آن للأنثى المدللة المتنعمة في لذائذ الحياة أن تتحول، بمجرد الولادة، لطلمبة ضخ حليب رضاعة طيلة اليوم. وأنها من الآن فصاعدا ستتحول لماكينة تعمل بروحين؛ طلمبة رضاعة ببطارية تُشحن بالهواء وتستمر في الإطعام إلى ما شاء الله، بالإضافة لحائط حمل ذي حاملين جانبيين يسميهما البشر ذراعان، وحاملين علويين يطلقون عليهما أكتاف!

وأتساءل: أهكذا تتحول النظريات من النقيض للنقيض على دماغ جيلي المسكين؟ ألا يتوسطون في أي شئ أبدا؟ أم أننا جيل بلا صاحب يذود عنه؟ أم أن ضمائرهم قد عذبتهم لما فعلوه بأطفال السبعينيات، فعوضوه بأعمار أمهات الألفية؟

وكانت المصيبة أنني وقعت ضمن المجموعتين لولا حنية ماما!
6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى