سيارات سورية أسدية (9)

سيارات سورية أسدية (9)

23 سبتمبر 2019
+ الخط -
في يوم من الأيام، حينما كان أبو الجود يعمل سائقاً على سيارة ميكروباص يمتلكها ضابط في الأمن، وصلت الأمور بينه وبين زوجته (أختنا أم الجود) إلى الطَلاق. هذا ما حكاه لنا خلال سهرة الإمتاع والمؤانسة في سياق حديثنا عن عالم السيارات السورية خلال عهد حافيييظ الأسد ووريثه.

قال كمال: الحقيقة إنُّه أبو الجودْ بارعْ في صُنْعْ المقدماتْ الحكائية المشوقة. أنا واثقْ إنه كل الموجودين هون صارْ عندهمْ فضولْ ليعرفوا سبب وصولُنْ هوي وأم الجود للطلاق.
قال أبو الجود: القصة إلها علاقة بالقسائم التموينية وبالضابط صاحب الميكرو اللي كنت أشتغل عليه بصفة سائق.

قلت: بما أني عم أسَجّلْ هاي الأحاديث وبنشرها في مدونة إمتاع ومؤانسة بصحيفة العربي الجديد، اسمحوا لي أعملْ توضيح للقراء حول "القسائم التموينية"..


في مطلع الثمانينيات، أعزائي القراء، لجأ حافظ الأسد إلى أسلوب جديد في إذلال الشعب السوري، وهو أسلوب "التقنين"، وأصبحت المواد الضرورية كالسكر والأرز والشاي تُباع بموجب القسائم التموينية التي سمّاها الناس "البونات".. هذه البونات كانت تصدرها وزارة التموين بموجب بيانات عائلية تتضمن عدد أفراد الأسرة وتوزعها على المواطنين.. والمواطن، بعد حصوله على هذه البونات التعيسة، كان يذوق الأمرين في الوقوف على أبواب المؤسسات الاستهلاكية، وأحياناً يمضي يوماً أو يومين وهو واقف ليحصل على المواد بالسعر المخفض، فإن أخفق في ذلك سيضطر لأن يشتريها من السوق السوداء بسعر مضاعف.

قال أبو الجود: من عادة النسوان إنهن بيخبوا الأشياء الثمينة متل الدهب والفضة والألماس في أماكن لا يستطيع إبليس اللعين الوصول إليها، ولكن أختكم أم الجود كان رصيدها من المجوهرات (لا شيء)، منشان هيك صارت تخبي دفاتر البوناتْ في مكانْ ما بيحسن حدا يوصل إله، وكانت ما تسمح لحدا من العيال أنه ياخد البونات ويروح ليشتري الرز والسكر والشاي، والسبب أنها بتخافْ إذا أخدنا الدفاتر أنا أو واحد من الولادْ، أن نضيعها، والبونات إلها قيمة مادية كبيرة، لأنه بكل شهر بتشتري المواد بنصف تمنها، أو ممكن إذا أنا أخدت البونات يدب فيني الطمع وأبيعها، وكانت هاي الدفاتر تباعْ فعلاً بمبلغ منيح، لأن مدة الدفتر خمس سنين، يعني ستين شهر، ونحن عيلتنا كبيرة، يعني إذا العيلة الزغيرة بتستهلك خمس كيلو سكر في الشهر، نحن منستهلك 15.. وأنا، رغم كل هالاحتياطات، تمكنت من سرقة الدفاترْ.

قال أبو جهاد: يخربْ بيتك يا أبو الجود، بالله إنه وجودكْ معنا بهالسهرة كله غلط. كل يوم عن يوم بتأكد لنا إنك حرامي. ما بيكفي إنك كنت تسرق الغلة لمعلمك الضابط، كمان بتسرق البونات لمرتك.

قال أبو الجود: أنا كنت إسرق الغلة لأنه الضابط كان عم يسرق البلد كلها، وما بيسترجي حدا يحكي معه، باعتبارْ في عنده دولاب، بيقتل وبيضرب وبيظلم. أما سرقة البونات لمرتي فهاي مو سرقة. طول بالك حتى أبَيِّنْ لَكْ الأسباب.

قال كمال: هاي بيسموها سرقة لدوافع شريفة. صح؟

قال أبو الجود: يا سيدي، بهيك حالات مين سائلْ ع الشرف؟ المهم، أخدت البونات واشتريت السكر والرز والشاي المخصصة لعيلتي، وجبتهم ع البيت بغياب أم الجود، وخبيتهم في مكان ما حدا بيحسن يوصلْ له. وسافرت ع الشام. ولما كنت راجعْ وقفت في بلدة "حسيا" واشتريت رز وسكر وشاي (تهريب) كمية بتعادل نفس الكمية اللي بتطلع لي بموجبْ البونات، وجيت على إدلب.. واللي صار إنه كلما وقفتني دورية مخابرات أو شرطة وسألوني أيش معكْ في السيارة؟ كنت أقول هدول موادي التموينية اشتريتهم بالبونات، وإذا الكلب الواطي رئيس الدورية ما صدقني كنت إفتح درج السيارة وأطلع دفاتر البونات وأقول له: شوف.. ولما كنت أوصل لإدلب، على السريع أبيع المواد المهربة وآخدْ الربح وأروح مباشرة إلى دكان الحاج محمد ناجي عاشور أشتري شعيبيات وآخدهم لأم الجود.. وأنا بعرف أن أم الجود بتحب الشعيبيات كتير، وكانت تاكل وتتشكرني..

قال أبو محمد: وما سألت على دفاتر البونات؟

قال أبو الجود: الجمعية اللي في حارتنا بتوزع المواد التموينية بين 10 و15 من كل شهر، وأنا بهالفترة برجع الدفاتر للمكان اللي سرقتهم منه.

قال أبو ماهر: مع احترامي إلك أخي أبو الجود، أنا مستغرب أنك حتى الآن طفران ومفلس وعايف رد السلام. بصراحة بصراحة؟ أنت بتصلح تكون حرامي كبير، أو مهرب على مستوى عالي.

قال أبو الجود: أنت غلطان أخي أبو ماهر. أنا كنت فاشل حتى بمهنة سواقة السيارات. وإذا هلق بتوصوا لي على كاس شاي ديري تقيل، وبتضيفوني سيكارة حمراء طويلة مستعد إحكي لكم على اليوم اللي هربنا فيه حديد مبروم.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...