سيارات سورية أسدية (8)

سيارات سورية أسدية (8)

21 سبتمبر 2019
+ الخط -

في منتصف سهرة "الإمتاع والمؤانسة" أعطانا أبو الجود فكرة مفادُها أنه، خلال عمله سائقاً بالأجرة على سيارات عمومية، كان يسرق من الغلة! وحكى لنا عن ضابط الأمن الذي كان يسرق ويشتغل في التهريب ويقبض رِشَا كبيرة من أهالي المعتقلين لقاء إطلاق سراحهم، وكلما تجمع لديه مبلغ من المال كان يشتري سيارة عامة "ميكرو باص"، ويعين عليها سائقاً براتب قليل، ومَنْ لا يرضى براتبه ويُحضر له غلة وفيرة يضعه في الدولاب ويضربه فلقة، وحكى لنا كيف قاده سوء حظه المزمن لأن يعمل سائقاً بالأجرة على إحدى سيارات "الميكروباص" التي أصبح يمتلكها ذلك الضابط كما لو أنها أسطول بري.

ومن أطرف ما روى أبو الجود في هذا السياق أنه التقى، ذات مرة، باثنين من زملائه السائقين الذين يعملون عند الضابط نفسه وهما يصرخان ويولولان بعدما تعرضا للضرب من قبل الضابط بسبب نقص الغلة، فخاف كثيراً، وأيقن أنه سوف يضرب مثلهما وأكثر.

وأضاف: سبب خوفي المضاعف هوي إني مدان من فرقي لقدمي. بتذكر إني اشتغلت عنده خمس أشهر، وخلالها خليتْ شعرْ راسُه يشيبْ ويبيضّ. وكان القهر من طرفي يجيه على دفعتين، أول شي ينقهر لما يلاقي الغلة قليلة، وتاني شي ينقهر لما نقعد أنا وهوي حتى نراجع مفردات غلة الشهر. من دون يمين كنت أخَلّي زلاعيمه تطقطق من القهر.

قال أبو محمد: شلون؟

قال أبو الجود: كنا نمسك أولْ بَنْدْ، المحروقات. والميكروباص متلما بتعرفوا بيشتغل ع المازوت، لما الضابط يشوف مصروف المازوت كبيرْ كان يجنّ.. أنا بصراحة كنت عبي خزان السيارة مازوت، وآخد من الكازيه فاتورة نظامية منشان قَدّمْلُه إياها مع الحساب بين الثبوتيات. ولما كنت أمرّ قدامْ بيتنا كنت كل يوم آخد تنكة عشرين ليتر وحطهم في البرميل تبع البيت منشان نتدفى أنا والمرا والولاد في الشتي، وأواقيت عبي نص تنكة لبيت أخوي المرحوم عامر، وأقول لمرت أخي: هدول هدية مني للولاد، المرحوم كان إِلُه علينا كتيرْ، وكنت أقول للضابط في جلسة المحاسبة إنه السبب في ارتفاع معدل صرف المحروقات هوي كونْ محرك الميكروباص صار عتيق، وبيحتاج لتصليح ونَفْضْ، ولا تنسى -يا سيدي الضابط- إنه الطرقاتْ تبعنا خشنة، ومحفرة، وحضرتك بتعرف إنه الموظفين في مديرية الخدمات الفنية تاركين الطرقات العامة بلا تسوية وإصلاح وتزفيت. هون كان يبلع ريقه بصعوبة وينظر لي نظرة حقد، وننتقل لتفاصيل مصروف الدواليب، وكنت أقول له إنه الطرقات المحفرة هيي العدو رقم واحد للدواليب، يا سيدي بتفرمها فرم، وخاصة إنه حضرتك عم تشتري دواليب عتيقة من دكان الكومجي (البنشرجي)، ولو كان قلبك بالصرف قوي كنت بتشتري دواليب يابانية من وكالتها.. والجديد تمنه فيه.. وعلى قول المتل (لوقت ما يتْعَرَّقْ الجديدْ بيكونْ العتيقْ تَخّْ).

ومرة من المرات، كنت حاسس أني سرقت من الغلة مبلغ أكبر من اللازم، وصارْ لازم أغطي حالي.. وبالصدفة، كنت ماشي في أحد الشوارع، لقيت عمود كهربا مزروع في نص الطريق. قلت لحالي: هاي هيي الفكرة.. وأسرعت شوي بالميكرو، وتقصدت إني أخبط العمود، وأخليه يوقع عَ الأرض. وبعدما خبطته نزلت من الميكرو، ورحت على أقرب دكان، واتصلت بالضابط وقلت له وأنا عم إبكي: 

- الحقني يا سيدي أنا عملت حادث، طلع قدامي عامود كهربا وأنا كنت شاردْ وما شفته.. خبطته. قال لي: طمني ع الميكرو، ان شاالله ما تآذى؟ قلت لك: لَهْ يا سيدي، هاي ما حبيتها منك. كنت مفكر تقلي (سلامتك يا أبو الجود). بوقتها صار يدعي عليّ متل أم الجود لما بتكون طفرانة مني، صار يقلي إلهي ربي المرة الجاية تطلع من الحادث دغري ع المقبرة.. ان شالله بتتشقف وبتتقطع وما حدا بيعرف وين صارت الشقف تبعك.. 

قال أبو محمد: لما عملت الحادث كان معك ركاب؟

قال أبو الجود: لا طبعاً. لو كان معي ركاب ما كنت بخبط العمود. لأنه الركاب ممكن 

يشهدوا ضدي ويقولوا إني ضربت الميكرو بالعمود عَنْ قَصْدْ. المهم، أخدت الميكرو ع التصليح، وبلشت أنا شغلي في التشليح. 

قال أبو محمد: شلون يعني تشليح؟

قال أبو الجود: أجرة تجليس الرفراف الأمامي عند الصواج أربعة الاف. خليت الصواج يسجلها سبعة آلاف. سَحْب السيارة بالرافعة ألفين سجلناها أربعة آلاف. الدهان والبخ تلات آلاف سجلناها خمسة وخمسمية.. بتعرفوا يا شباب أشو هيي الشغلى اللي بتخل العقل؟

قال أبو ماهر: شو هيي؟

قال: في كتير ناس لما كانوا يشوفوا الميكرو المتعرض لحادث يزعلوا على صاحب السيارة، ويقولوا إنه حرام هادا الإنسان شو ذنبه حتى يدفع تصليح الميكرو تبعه كل هالفلوس؟ أكتر من عشرين واحد أظهروا الشفقة عليه.. لاكن ولا واحد منهم كان يقول إنه هادا مالك السيارة أصلاً حرامي وتَمَنْ هادا الميكرو كله مسروق من أموال الناس.. يعني من أموالنا نحن. دنيا عجيبة بالفعل. 

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...