دوّارة يا سيسي

دوّارة يا سيسي

21 سبتمبر 2019
+ الخط -
لماذا رفض عبد الفتاح السيسي الاستجابة لنصائح أجهزته الأمنية، وجازف بعقد مؤتمر مخصوص للرد على فيديوهات المقاول الظاهرة محمد علي؟ ولماذا قرر أن يتفاخر برفضه لنصائح أجهزته، بل ويعترف بصحة كثير مما ورد في فيديوهات محمد علي في عبارة أيقونية قال فيها: "مش أي حد يقول معلومات صحيحة تصدقوه؟ ولماذا أضاف إلى تلك المعلومات المزيد عن نشاط الجيش في مشروعات الطرق والتي قال إنها وصلت إلى 175 مليار جنيه؟ ولماذا رفض أن ينحني للعاصفة ولو قليلاً وقرر أن يصب الزيت على نار الغضب بقوله على الملأ: "أنا عامل قصور رئاسية.. وهاعمل.. هي ليا.. أنا باعمل دولة جديدة.. هو انتو فاكرين لما انتو تتكلموا بالباطل هتخوفوني ولا إيه.. أنا أعمل وأعمل وأعمل.. بس مش باعمله ليا.. مش باسمي.. ما فيش حاجة باسمي.. ده باسم مصر". 

هل يدل موقف كهذا على الثقة الزائدة التي تقتل صاحبها؟ أم على الغباء المستحكم الذي يظنه صاحبه شجاعة؟ أم على مزيج من الاثنين؟ أياً كانت الإجابة فالمؤكد أنه موقف يكشف عن انفلات غير مسبوق لأعصاب السيسي، وهو ما يدفع للاندهاش والتأمل، فكيف تنفلت بهذه السهولة أعصاب حاكم لم يتمكن أحد سبقه في تاريخ مصر من تركيز السلطات والتحكم في مفاصل الدولة بهذا القدر؟ 

انفلات الأعصاب هنا ليس نابعاً من الضعف أو الارتباك، فقد كان لدى نظام السيسي عدة خيارات يمكن أن يبادر بها ويختبر تأثيرها، قبل أن ينزل بورقته الأقوى: تدخل الرئيس. في اعتقادي، انفلات الأعصاب نابع من التأثر العاطفي المفرط بما يحدث منذ اندلاع ظاهرة محمد علي، من فائض "عَشَم" القائد في جماهيره، هذا الفائض الذي جعل السيسي لا يكتفي بمرحلة "عايز أدوس على زرار البلد تقوم وزرار تاني البلد تقعد"، وهي عبارة تمت نسبتها لجمال عبد الناصر بعد انفراده بالحكم عقب حادث المنشية 1954، ويمكن اعتبارها تلخيصاً لتصور المستبد ـ الذي يرى نفسه عادلاً ـ لطريقة إدارة الدولة. 

السيسي الذي يضع دائماً تجربة عبد الناصر أمام عينيه، ولا يكف عن الاستشهاد بها، وسبق له أن أعلن حسده لعبد الناصر لأنه "محظوظ بإعلامه"، قرر أن ينتقل فجأة ومن غير اتفاق مسبق إلى مرحلة "عايز البلد تقوم وتقعد زي ما أنا عايز من غير ما أدوس على زرار"، ولذلك أعلن في المؤتمر الأخير غضبه من مؤيديه وجماهيره، لأنهم تأخروا في الرد على فيديوهات محمد علي، ناسياً أنك حين تحول كل وسائل الإعلام إلى مجرد أذرع، فهي حتماً ستنتظر منك القرار، بوصفك عقلها المدبر وصاحب الأمر والنهي، خاصة أنه لم يعد مفهوماً لدى مسئوليها ما الذي يرضيك وما الذي يغضبك؟ ولذلك حين التقط هؤلاء أنك غاضب من تأخر ردهم، نزل جميع الشتامين والبلطجية والمنافقين إلى أرض الملعب، وتباروا في الارتجال والتجويد، دون مبالاة بأي عك ينتج عن ذلك، لأن رضا الكبير أهم وأجدى، "والباقي كله يتداوى". 

غضب السيسي الشديد من سكوت أنصاره وتأخرهم في الرد، كشف أنه قرأ تراخيهم في مواجهة الفيديوهات بوصفه تشمماً لاتجاه الريح واستعداداً للقفز من المركب، مع أنه كان في الأغلب حيرة أو ارتباكاً أو ثقة في أن النظام أقوى "وما يهزه ريح"، وهو ما ساعد الكثير من المتابعين لما يجري في "حرب اللايف"، على تبني نظرية أن ما يحدث منذ انشقاق محمد علي، دليل على وجود صراع أجهزة سيادية، وهي نظرية مرتبطة بطبيعة تصور غالبية المصريين للدولة العليمة العميقة التي لا يحدث شيئ بعيداً عنها، ولا ملجأ منها إلا إليها، وهو تصور شجعت عليه الدولة شعبها طيلة الوقت، مع أن التاريخ المصري المعاصر به الكثير من حالات الارتجال المربكة، التي تم تصويرها في البداية بوصفها صراع أجهزة، ثم اتضح أنها محض عبث. 

راجع مثلاً تعامل عبد الناصر مع عدد من انشقاقات الضباط في سنين الثورة الأولى، والتي اتضح أنها لم تكن مسنودة من جهات دولية ولا من أجهزة مخابرات عربية منافسة، بل كانت اجتهادات فردية خائبة، راجع مثلاً قصة الشيخ عاشور والذي ظنه الكثيرون مسنوداً لأنه جرؤ على معارضة عبد الناصر في عز جبروته وقال: "لقد انتخبناك رئيساً للجمهورية ولم ننتخبك سيداً علينا"، ثم اتضح أنه "ماشي بنور الله" ولم يبك أحد عليه حين تم رميه في السجن، راجع نجاح السادات في القضاء على مراكز القوى بسهولة وبالصدفة البحتة، بفضل اجتهاد فردي من ضابط مخلص، راجع كيف أدرك مبارك بعد وقوع مذبحة الأقصر خطر السماح بوجود خلافات بين حسن الألفي وحبيب العادلي رئيس جهاز أمن الدولة، فقرر أن يطلق العنان للعادلي بعد تعيينه وزيراً لكي يشكل الوزارة على هواه إلى أن سقط النظام. 

في ظل النقص الفادح للمعلومات عن طريقة إدارة السيسي لدولاب العمل في الدولة، يكفي للتدليل على ما أقول أن نتذكر مصائر الأسماء "الثقيلة" التي اختفت من المشهد فجأة: صدقي صبحي، الفريق محمود حجازي نسيب السيسي، اللواء أسامة عسكر، اللواء التهامي رئيس المخابرات العامة، الفريق مهاب مميش، اللواء أحمد وصفي، المهندس إبراهيم محلب، وليس هنا مقام استدعاء سلسلة الروايات المرتبطة باختفاء كل واحد منهم، فهي روايات سيؤكد المؤرخون صحة بعضها يوماً ما، وسيستفيد الروائيون من البعض الآخر، وأياً كانت التفاصيل، فالمؤكد أن السيسي ليس محتاجاً لمن ينبهه إلى خطورة صراع الأجهزة، لأنه يقوم بغربلتها طيلة الوقت مستعيناً بأقرب الناس إليه: صديق عمره اللواء عباس كامل وابنه الأكبر محمود الذي يتغول نفوذه يوماً بعد يوم، وهو ما قد يوحي من بعيد بقدرة السيسي على التحكم الكامل في الدولة، لكنه يمكن أن يوحي أيضاً بضعف شديد، لأن التحكم الحقيقي للحاكم يكون حين يقدر على إدارة الدولة بمستوى معين ومعقول من التدخل الفردي والمباشر، يسير معه دولاب العمل بمرونة، وبالتالي حين يتعرض جسم الدولة لهجوم مفاجئ ومربك، يتحرك ذلك الجسم بقوة وكفاءة للرد بآلياته المعتادة، وفي ظل حالة كهذه لم تكن أعصاب السيسي ستنفلت على الملأ بذلك الشكل الذي أضر به أكثر من فيديوهات محمد علي. 

كالعادة، توقف كثيرون عند الجزء الذي انفعل فيه السيسي وقال أنه سيواصل بناء القصور، لكنهم لم يتوقفوا بنفس القدر عند الجزء الذي فقد فيه أعصابه وتحدث فيه بصوت متهدج عن خيبة أمله، لأن المصريين قاموا بمشاركة الفيديوهات، ونسوا أنه على حد تعبيره "الراجل اللي وقف ضد الإخوان وكان مستعد يضحي بأولاده وأحفاده"، شاكياً أن يصل به الحال إلى أن يقدم لهم فواتير بأكله وشربه، ومشيراً إلى ما قاله قبلها عن قيامه بتغيير طريقة الأكل داخل قصر الرئاسة، لتصبح على نفقة الموظفين وليس على نفقة الدولة، وهي معلومة لم يتطوع أحد بطلبها، بل هو الذي أدلى بها، ثم اعتبرها بعد قليل أمراً لا يليق الحديث عنه، وهو ما يدل على حالة انفلات أعصاب غير مسبوقة، ويكشف أيضاً عن عيب قاتل في التحكم في الأعصاب، يمكن لخصومه استغلاله بسهولة مستقبلاً.

طيب، لماذا تجاهل الكثيرون استدعاء السيسي للحظة الوقوف ضد الإخوان في هذا التوقيت بالذات؟ ببساطة لأن كثيرين من معارضي السيسي الآن، كانوا للأسف الشديد ممن أيدوا مذبحة رابعة ورأوها إنجازاً أو حلاً أو ضرورة، لذلك ستجدهم يستبعدون التفكير فيها كلحظة مؤسسة لنظام السيسي، ويغضبون ممن يتذكرها أو يذكرهم بها، ويتهمونه فوراً بمساعدة الإخوان على استثمار مظلوميتهم، حتى لو كان من معارضي الإخوان، لكن السيسي على عكس هؤلاء، بل وحتى على عكس مؤيديه المستمرين في تأييده خوفاً أو طمعاً، لا يمكن أن تغيب عنه لحظة المذبحة أبداً، ولن أستدل هنا بتصوير شكسبير في مسرحية (ماكبث) العظيمة لتعامل القاتل مع ذكرى ضحاياه، بل سأستدل فقط بالمرات التي قرر السيسي فيها أن يبادر بالحديث عن مذبحة رابعة وعن علاقته بالإخوان، دون أن يطلب منه أحد، وهو ما لا يمكن أن تفصله عن استدعائه فجأة في مؤتمره لوقوفه ضد الإخوان، في لحظة لم يتحدث فيها أحد أصلا عن الإخوان، لأنه أراد أن يذكر ملايين المصريين بلحظة التعاقد الأولى، ببدايات الغرام، باللحظة التي آمنوا فيها به كبطل مخلّص، وهي لحظة ينسى السيسي أنها لم تكن أبدية، بل كانت مرتبطة باستحقاقات ونتائج، حين لم تتحقق، بل تحقق عكسها، تحلّل منها الكثيرون، ولذلك قرر السيسي تذكيرهم بها. 

هي لحظة مهمة، تشبه مع الفارق لحظة الصدمة التي انتابت السادات عقب انتفاضة 18 و19 يناير 1977، والتي يجمع شهود عصره أن كثيراً من قراراته الصادمة وعلى رأسها زيارة إسرائيل وإطلاقه العنان لمحاسيبه وأقاربه، جاءت كرد فعل على شعوره بالخذلان من الشعب الذي نسي إنجازه غير المسبوق في نصر أكتوبر 1973. يمكن أن تضع في الإطار نفسه انفلات أعصاب عبد الناصر، حين وقعت مظاهرات الطلبة عقب صدور الأحكام الهزلية على قادة الطيران بعد عامين من الهزيمة، ليعتبر أن تلك المظاهرات خيانة لمجهوداته في حرب الاستنزاف وما كان فيها من معارك بطولية، ولأول مرة يرد على لسانه ـ طبقا لشهادة وزيره أمين شاكر ـ اقتراح ضرب المظاهرات بالطيران. يمكن أن تضع في الإطار نفسه انفلات أعصاب مبارك في خطابه الغبي قبيل موقعة الجمل، وتذكيره الشعب بأفضاله عليه، وفي لحظات درامية كهذه ترى الحاكم متعلقاً بإنجازه، أو ما يتصور أنه إنجازه، أكثر من الشعب "ناكر الجميل قصير الذاكرة" الذي يرفع في وجه الحاكم منطقاً آخر أكثر عملية هو "خلاص بقى ما تقرفناش.. عايزين نربي أولادنا ونعيش.. مش هنقعد نغني لك كل شوية". 

المؤكد أن انفلات أعصاب السيسي يشكل خصوصية تفرقه عن كل اللحظات الحرجة التي واجهها النظام، وعلى رأسها لحظة ما بعد بيع جزيرتي تيران وصنافير، لأنه ولأول مرة لا يمتلك زمام المبادرة، ولا يكون صاحب الضربة الأولى، ولذلك ظهرت بوضوح فداحة نتائج ما قام به من تجريف سياسي لساحة سياسية هي في الأساس معطوبة وهزيلة، وخسارته لكثير من حلفائه الإعلاميين الذين لم يكونوا يطمعون في الكثير أصلاً، وتكويشه على كل المبادرات والتحركات السياسية والإعلامية والشعبية، وكلها مشاكل لن يجرؤ المخلصون له على اقتراح حلها الآن، لأن السيسي سينظر لمن يطلب منه ذلك بوصفه انتهازياً يستغل اللحظة، وسيطلب منه أولاً أن يقف مع الدولة دون قيد ولا شرط، "وبعد كده نتحاسب" طبقاً لنص التعبير الذي قاله أحد رجال النظام المقربين لبعض الناصحين من الطامعين في العودة لمواقعهم الإعلامية التي أبعدوا عنها.

يكذب من يقول لك إن لديه تصور واضح قاطع لما يمكن أن يحدث، لكن يكذب على نفسه أيضاً من يقلل من أثر انفلات أعصاب السيسي على المشهد العام في مصر، وهو ما أدى إلى خروج مظاهرات شعبية في العديد من المدن المصرية، لم يكن يتوقعها أحد، وكان الكل مجمعاً على أن تأثير محمد علي يبدأ وينتهي عند التلسين والرغي، فإذا به ينجح في إخراج مواطنين إلى الشارع في ظل حالة قمع غير مسبوقة، وهو ما لم يحدث منذ انتهى تأثير مظاهرات الإخوان في عام 2014، وإذا كان أغلب مؤيدي السيسي سيختارون العيش في حالة الإنكار، وينشغلون بالتقليل من شأن التظاهرات وأثرها، فإن أي مراقب للشأن العام في مصر، لا يمكن أن ينكر كيف تغير خطاب النظام ومؤيديه من منطق " أيوه ما حدش هينزل الشارع أبداً، والسيسي قاعد لحد 2030 وبرضا الشعب ومحبته وفرحة العالم وحسده لمصر وإنجازاتها"، إلى منطق "يسقط الخونة وحرام عليكم عايزين تخربوا البلد وتدمروا الجيش وتتطربق على دماغ الكل"، وهو تغيير مدهش، خصوصاً حين تتذكر أنه حدث في وقت قياسي، وفي ظل ملابسات من أتفه ما يمكن: "كاميرا موبايل و250 خرطوشة سجائر".

دوارة يا سيسي..

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.