سؤال أهبل!

سؤال أهبل!

18 سبتمبر 2019
+ الخط -
أشفقت على شاب صغير كتب لإحدى مدربات مهارات التواصل يسأل عن الصفات التي تحبها النساء في الرجل ليصبح في نظرهن "رجلا جيدا"، على حد تعبيره. وبدا لي محرجا ومتلعثما، حتى أنه صدّر سؤاله المقتضب بعبارة: معلش سؤال أهبل..!

وأخذت أفكر في ما دفعه لإعلان قصور فهمه للجنس الآخر هكذا على الملأ، بل وفي ساحة ترتادها النساء الراشدات ذوات الخبرة الأطول في الحياة غالبا. وبدا لي سؤاله صادقا وعفويا للدرجة التي لا تضعه في خانة المساكين الساعين للإعجاب من النساء في عمومهن كهدف في حد ذاته. إذ لو كان هذا مرامه لذهب بسؤاله سرا لدونجوان ممن يتفاخرون بالضيق من كثرة المعجبات. ورجحت أنه يتمنى لو دلته إحداهن على مفاتيح قلب من يحب لكي تلتفت له وتبادله الشعور.

وبصراحة لم يفاجئني ما انبرت في سرده غالبية التعليقات النسائية من أوصاف الرجل الصالح الذي تقدره المرأة، وكيف أصبح الموضوع أقرب لمسابقة في تعداد فضائل الأجاويد الكرام وشمائل الغُر الميامين، بل وصفات رجال الجنة! وضحكت وأنا أقرأ لإحداهن وهي تجيبه بكل ثقة:
"تحب المرأة كل الصفات والقيم البشرية الحسنة".. يا لها من إجابة معجزة! تخيلت معها حيرة الشاب الغض وهو يحدث نفسه: يا لتلك المخلوقات العجيبة! كيف لا تعجبهن الصفات السيئة والقيم المنحطة؟!!


وهممت للحظة أن أتلبس قناع الحكمة والحنكة وأشارك بإطلاعه على بعض ما يعجب المرأة في الرجل، لولا أن أخذتني الشفقة عليه أكثر، وراجعت نفسي بأن ما سأكتبه له سيكون ذائقتي الخاصة التي قد لا تشاركني فيها الأخريات. فلو أخبرته بأن الروح المرحة المتخففة تروقني، فسيعرف من غيري أن الجدية و"التقل" والصرامة والغموض بل وربما العبوس والاقتضاب هي شيم الرجل الجذاب في نظرهن. ولو قلت إن ظاهرة الإعجاب بالفتى الشرير أو "الباد بوي" الذي يسيء معاملة المرأة، ويقسو عليها، ويظهر عدم الاكتراث بها، ويعرف الكثيرات في وقت واحد، والتي تغرم بها الصغيرات على ما أسمع، هي في منطقي مرض نفسي يستحق مراجعة الطبيب، لظهرتُ في صورة من يميلون للتسامي وإظهار المثالية ولكرهتني الصغيرات! ولو صرحت بأن إظهار درجات من الضعف والتردد والمراجعة وتحييد الإيجو هي لمحات إنسانية تدل على الصدق، وهي مقدّرة جدا عندي بالذات لدى الرجال، لتهكمت عليّ الكثيرات ووصفت أصحابها بأشباه الرجال. ولو حاولت أن أصف له مقدار الرقة واللطف التي تلفتني في الرجل فلا تميل به لكفة الميوعة، لكنها ترتقي بروحه بعيدا عن القسوة والتبلد، لفشلت.

ولو أخبرته بأنني أضع مقياسا لـ"جودة الرجل"، لو كان لمثل هذا التعبير أن يستخدم، بمقدار تصدقه بالمال والجهد ورفقه بالضعفاء لا بقدر رقته مع النساء، لجادلتني فيها عشرات النساء معلنات أنهن أولى الضعفاء بالبر والرفق.. ولألجمن منطقي بسؤال: ألسنا نحن القوارير يا هانم؟! وفي ذلك بعض الحق على أي حال.

وعليه، فلم أشارك في ذبذبة المسكين وزيادة حيرته، فقد جادت بذلك أكثر من مئة وخمسين سيدة، فله الله!

وأظنني رأيت وسمعت من قصص وأحوال المحبة بين البشر ومن عجائبيتها وانتفاء الشروط الضامنة لها، ما يجعلني أظن أن القاعدة الوحيدة الممكنة لفهم الحب هي استحالة وضع قاعدة لفهمه! لكنني على ذلك لم أستدعِ من حكاياتي الواقعية شيئا ساعتها، ووجدتني أتذكر قصة بديعة بعنوان "أنشودة المقهى الحزين" للأميركية كارسن مكلرز، تسهب فيها في وصف شخصية نسائية غريبة الأطوار ومليئة بالتناقضات.

إميليا، سيدة عزباء مسترجلة حادة الطباع، لا يصفها أي ذوق كان بالجمال. تداوي أهالي قريتها بالطب الشعبي ولا تظهر في نشاطها ذاك، على التزامها وحرصها على أدائه، الحنو والرقة المتوقعة. بل لا يجد منها الجميع غير الفظاظة والتحفظ وعدم الاكتراث. وهي تمتلك عن أبيها مقهى صغيرا تسكن طابقه العلوي ولا ترضى بإعادة فتحه للزبائن لسنوات طويلة. وكانت تزوجت في الماضي من رجل قوي البنية حسن الطلعة لكنه صاخب ومشاكس، أحبها وخطب ودها لسنين طويلة لكنه لم يفلح في فض مغاليق روحها، فانفصلا بسر غامض ومرارة كبيرة، واختفى وتوقفت عن ذكره أو تذكره وكأنه لم يكن.

ولم تشرق هذه المرأة وتبدل بعض صلفها وجفافها وضيقها بالناس إلا بظهور قزم أحدب قبيح يتكسب بعمل المهرجين وإضحاك الرجال ويدّعي قرابته لها، ويُظهر للجميع دهاءً ومراوغةً يستحقان التحرز. إلا أن المتحفظة الباردة تفتح له قلبها ومقهاها بعد إغلاق سنين ليقيم ويلهو ويعمل. وتأتنس بوجوده المريب، وتغير له بعض عاداتها التي لم تكن لتتزحزح عنها لمخلوق. ثم يظهر زوجها السابق فجأة ويبدأ في ارتياد المقهى واستفزازها لأي سبب. ونجد القزم الذي أحبته يعاون طليقها في ذلك ويصطف معه ضدها بالرغم مما تبديه له من تعاطف يرقى لدرجة الوله المكتوم. بل ونعرف أن القزم يرافق طليقها راغبا فيه! وفيما تتعقد علاقة الحب المثلثة العجيبة تلك وتتوالى الأحداث، يندهش القارئ أن تستمر إميليا في الحنو على القزم الوغد وتلقيه برفق وتفهم العاشقة التي وهبت قلبها بلا حساب. وتظل على عهدها هذا به حتى بعد أن يغادر برفقة طليقها العنيف شامتا بها غير عابئ بحبها البادي له، وبما فعلته لأجله دون كل من عرفت من البشر.

ولنسلم بأنها رواية، وبأنه نموذج صادم ومتطرف ربما، لكنه حقيقي ودال. وأعرف أن الحكم الدارج على مثل هذه الحكاية سيكون بأنها أضغاث خيال ولا مجال لمثلها في الواقع. أو أن الشخصيات مرضى وشواذ ولا يصح القياس على مشاعرهم وميولهم. وهي فرضية تضع القارئ ضمن الأسوياء والأصحاء والمثاليين والحكماء والمتحكمين في أنفسهم ومشاعرهم وخواطرهم على طول الخط، ويا لها طبعا من فرضية رائعة!

لكنني لا أظنها فرضية تثبت لو راجع الواحد منا نفسه بصدق في منطقية ومثالية ما أحبه وتمناه في هذه الحياة.. بغض النظر عن طبيعته وحكمته وثباته ومثاليته في كل شيء آخر.

وأفكر في ما لو كان لي أن أرى السائل الشاب، فأتمثل الحكمة المقطرة، وأنظر له من خلف النظارة التي لم أضعها في عمري بعد، لكنها ستزيد مظهر الحنكة والخبرة بالتأكيد، لأقول له إن الحب أثمن أرزاق الدنيا. وهو ككل الأرزاق يأتي بلا طلب ولا جهد ولا تحر. فلا تقلق بشأن نزوله وبشأن أسبابه. فهذا مما لا حيلة لمخلوق فيه مهما سعى. لكنه في نزوله وتدفقه ابتلاء كالابتلاء بسائر الأرزاق، فإما شاكرٌ وإما كفور. فلتكن يا عزيزي عند نزوله عبدا شكورا، وعند انقطاعه عبدا صبورا.

ثم أتذكر صيغة سؤاله وأبتسم مجددا وأتمتم: عموما.. هو سؤال أهبل فعلا!

دلالات

6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى