عينات مجانية... قصة قصيرة

عينات مجانية... قصة قصيرة

10 سبتمبر 2019
+ الخط -
انقصف سن قلم الكحل وأنا أحاول رسم خط عيني السفلي صباحا. نَبَا عني سباب وشكرت الله أن الولد لم يسمعه وهو يتأهب للخروج للمدرسة. عبثا بحثت عن المبراة لبري ما تبقى من القلم بطول عقلتين، ولما فشلت بدأت أتوجس من اليوم كله، لكنني وجدت السن المقصوف بالصدفة، فالتقطته وأخذت أرسم به العينين بحرص حتى أفرغ قبل أن يتآكل ويذوب بين طرفي إبهامي وسبابتي. ابن الـ... هذا! ناقصاه!

المهم أنه قام بالمهمة الضرورية بشكل معقول. على الأقل أستطيع الذهاب للعمل بعينين متماثلتين. عليّ تذكر شراء قلم جديد في طريق العودة.

...

كنت قد أخبرت رئيسة العمل أمس أنني سأستأذن للذهاب مع ماما للشهر العقاري. عقدت حاجبيها اليوم وأنا أخبرها بأنني سانصرف، ثم زحلقت نظارة القراءة على أنفها بأسلوبها الخاص، ونظرت بتمعن وعجب لساعة الحائط التي تشير للتاسعة والربع، ورمقتني بنظرة جانبية منتظرة التفسير. ولما وجدتني أحزّ شفتيّ بضيق مكتوم وأصمت، رفعت النظارة على أنفها مجددا، وأصدرت المرسوم: مش للدرجة دي.. خديه عارضة يا سهام.


انصرفت من أمامها بلا كلام. وفي الطرقة مررت بهناء فأخبرتها بما فعلَت، فردت بشماتة بأنني "جاية في إيه ورايحة في إيه؟!.. لها حق"، فذهبت للمكتب بوجه محتقن، وسحبت الكرسي بعنف فسقط الجاكيت التريكو المعلق على ظهره إلى الأرض، وكدت أصرخ وأنا أتمتم بغيظ: بوز الإخص! قال وأنا بشتكي للعقربة الحقودة! تلاقيهم فاكرين أمي صاحبة أملاك!

كتبت طلب العارضة على ورقة بعصبية، وناولتها لقوت على المكتب المجاور، فأخذتها بحذر، ووجدتها تقوم نحوي، فتحفزت للمناكفة لو طلبت مني أي شئ، لكنني فوجئت بها تميل لترفع الجاكيت عن الأرض وتنفضه في الاتجاه الآخر عدة مرات، ثم تناولني إياه وتطلب مني أن أسأل ماما لتدعو لابنها عمر الذي يستعد غدا لأول امتحانات الثانوية العامة.

غادرت بعدها في حال أفضل. على الأقل قوت القلوب تحترم عصبيتي.. وتحترم ماما.. وتحترم الجاكيت!

...

أصبح خروج ماما من البيت مشكلة. تبالغ في الاهتمام بكل التفاصيل وكأننا "رايحين فرح"! تبرر نجوى أختي ذلك بقلة خروجها، وبالمجاملات التي تمطرها بها القريبات والجارات اللاتي يزُرنها كلما مرضت أو مكثت في المستشفى مؤخرا. يذكرنها بأنها كانت دوما أشيك بنات العائلة. أتعجب! ماما على مشارف السبعين ولا تنفك تردد "أشيك بنات العيلة" هذه وكأنها تخرجت للتو من التوجيهية!

تلتفت لقدميها ونحن نخطو ببطء نحو الباب وعصاها في يدها، ثم تشهق فجأة أن اكتشفت أنني ألبستها الشراب الشفاف ذا الظل البني بدلا من الظل "الفيميه"، وتقرر الجلوس قرب الباب حتى أبدله لها، إذ لا يصح أن ترتدي ذا الظل البني على البالطو الكحلي والحذاء الأسود، ثم تحذرني بصوت خفيض كمن تتقي الفضيحة: "نصيبة لا تكوني بتلبسي كده في شغلك يا سهام.. إوعي عيب!"

أعود للبحث عن الفيميه بنصف عقل وأنا أرد متصنعة الجزل: معقول يا ست الكل.. لا يمكن طبعا! أتذكر سن قلم الكحل المقصوف وأبتسم بسخرية. ثم أجدها تحدثني وأنا أبحث عن الشراب وتكرر الدعاء بأن ييسر الله موضوع عمل التوكيل، وتردد ما قالته لها خالتي بأن مشاوير الشهر العقاري كثيرة ويمكنهم أن يعرقلوا أي موضوع، فأرد بسرعة بأنني أخذت اليوم إجازة عارضة، وليس لي سوى يوم آخر حتى نهاية العام، وأتكدر بتذكر ما حدث في المكتب فأصمت. وأعود فأنحني أمامها لأبدل البني بالفيميه، فأجدها تهمس بضعف: "معلش بتعبك"، فأقبل ركبتيها وأنا أنهض، وأداري عنها دمعة حبيسة يستهويها الانزلاق على خدي كلما سمعت منها هذه العبارة.

ذهب الكدر وأنا أفكر أن ماما على الأقل تقدر ظروفي بالرغم من كل تحكماتها المعتادة.

...

أترك أمي العجوز في بهو المبنى، وأصعد للدور العلوي على السلالم. أقف عند الموظفة المختصة وأحاول أن أهش وأبش في وجه الجميع عسى أن ييسر الله كل عسير. الموظفة شابة صغيرة ونحيلة جدا حتى لكأنها تلميذة في المدرسة، لها لثغة غريبة لم أستطع تحديد في أي حرف، إذ تبدو في حزمة من عدة حروف لا حرفا واحدا، ويزيدها ذلك صغرا واقترابا من هيئة الأطفال. بعد انتظار دورين من جملة الأدوار، اقتربت منها وهمست بأن أمي سيدة مسنة وتجلس بالأسفل وسيستغرق صعودها وقتا طويلا، فتخبرني بأن أتركها مرتاحة حتى ننتهي من كل الإجراءات ثم لتصعد عند التوقيع الأخير. أنظر وأبتسم وأوشك أن أخبرها بأنها لا تستطيع الانتظار لوقت طويل، فأجدها تنشغل مع عميل يسبقني وينقطع الكلام. أراقب في توتر، فأجد أحدهم يحدجني بغيظ ويقول بلا تعيين لمن يقصده: "لو سمحتوا في دور.. امتى نحترم النظام بقى؟". فأطرق وأتكدر. لو كان يعرف هذا الوغد شعور من يجلس بالانزلاق الغضروفي على كرسي خشبي لمدة ساعة لخرِس!

أتذكر بأن ماما بالأسفل غالبا ما تحتاج لدخول الحمام، فأتجه للموظفة الصغيرة، وأهمس في أذنها بالقصة، وأترك الملف كله عندها، وأمرّ بالمغتاظ في خروجي، فيشيح بوجهه بالرغم من عدم تعدي أحد على دوره! وأسارع بالنزول.

عند عودتنا من الحمام ببطء لأماكن الجلوس، أجد شابا صغيرا ينادي باسم أمي، وأتفاجأ بأن الموظفة الشابة قد أوكلت لزميلتها إنهاء كل شئ، وأرسلت الورق لأمي مع زميلها للتوقيع، ثم طلب مني الصعود معه بسرعة للختم الأخير من مدير المكتب.

أصعد وأتوجه خلف الشاب للمدير، وأدير عيني في المكان متوجسة من رؤية المغتاظ الوغد، لكن بدا لي أنه انصرف، فأنهي المطلوب، وأشير للموظفة بالشكر وأخرج. وأفكر أن الشباب هم قاطرة الإصلاح.. على الأقل لم تنطفئ جذوة الأمل في التغيير بعد.

...

أعود بالتاكسي مع ماما في زحام الظهيرة. الطريق شبه متوقف في هذه الساعة، وهي تتألم من طول الجلوس، فأحاول تشتيت انتباهها بالحكي عن قوت وابنها وامتحانات الثانوية العامة، وأطلب منها الدعاء للولد في "محنته"، فأجد السائق يتدخل في الحديث كالعادة، ويحكي عن ضيق حاله أيام "سنوية أولاده".. هكذا ينطقها فينقبض قلبي، ويثرثر طويلا عن ظروف البلد وعن وعن من كلاسيكيات حوارات التاكسي. صوته عال و يدخن ويشير بيديه طول الوقت، فأشعر ببدايات الصداع، لكن على الأقل ماما تندمج معه في الكلام وتنسى الشكوى من ظهرها، وأسرح أنا في زحام الطريق.

...

أمر بمتجر التجميل في طريق عودتي لشراء قلم كحل جديد. ثمنه أصبح ستين جنيها.. يا للهزل! كم يا ترى سأتكلف لو تهورت وانتقيت أحمرا للشفاه؟!

أتجول في المكان ويكدرني جنون الأسعار، فأكتفي بالكحل وأدفع ثمنه وأهم بأخذه، فأجد البائع يعطيني عبوتين صغيرتين لكريمات غالية للوجه واليدين، ويخبرني بأنهما عينات مجانية. أشكره وأخرج بفرحة طفولية لا تتناسب مع صِغر الهدايا.

...

أقرر الترجل للبيت بعد خفوت الصداع. وأجدني أواصل السير بخفة وارتياح على كل ما في الشارع من رزايا، وأسترجع شريط يوم ككل يوم.. مليء بالعينات المجانية اللطيفة.
6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى