ليس مدحاً في إبليس!

ليس مدحاً في إبليس!

09 اغسطس 2019
+ الخط -
وجوهكم أقنعة بالغة المرونة

طلاؤها حصافة، وقعرها رعونة

صفق إبليس لها مندهشاً، وباعكم فنونه

وقال: إني راحل، ما عاد لي دور هنا، دوري أنا أنتم ستلعبونه.

ورغم أني أتفق مع شاعرنا الكبير السيد مطر فيما وصف بداية، إلا أنني وليسمح لي أنْ أختلف معه في ما انتهى إليه في أبياته الرائعة هذه. كون أن هؤلاء "الهبل" لا يستطيعون لعب دور إبليس حتى لو حاولوا تقمص شخصه. إبليس جد ذكي ومتعلم بل وعالم، بينما هؤلاء لا يملكون من صفات إبليس سوى "الشطانة" وهي لوحدها دون الملكات والمواهب المواكبة، أقولها تجاوزاً، التي تتطلبها الصفة والموصوف معاً لا تكفي أبداً. علاوة عن هذا، أن يتركنا إبليس هي فنتازيا تخدم نص الشاعر وخياله وتصويره البلاغي لا غير.

من عاداتي أن أقرأ وأنا أستمع للتلفزيون، وأحيانا أفتح هاتفي عند سماعي جرس إخطار لشيء ما، عادة سخيفة، وأتعامل معه ثم أعود. في الضفة المقابلة، من المؤكد أن النساء لهن قدرة عجيبة على أداء مجموعة أعمال في آن واحد، فيما الرجال لا يمتلكون هذه القدرات الفريدة، وما ذكرته لا يعدو كونه عملاً واحداً في ذات (الهنيهة) الزمنية، وهو القراءة باستخدام تقنيات المسح الضوئي للقفز على الأسطر لقلة الصبر، ما لا يتسم به إبليس.

استمعتُ وأنا أقرأ أو ربما قرأت وأنا أستمع أنّ فلاناً بن فلتان يلقب بشيطان العرب، والمقصود هنا بالشيطان هو إبليس طبعاً. ولا أدري في ظل اشتباك المفاهيم وتداخلها أهو مدح في صورة ذم أم ذم في صورة مدح، فحين تصف قائداً بأنه ثعلب ماكر فإنك تمتدحه، لأن المكر في الحرب صفة إيجابية، بينما في غيرها على الإطلاق، سلبية. الدهاء يعد ذكاءً في تدبير الشر، لكن أطلق على بعض (التابعين الأولين) أنهم دهاة وهنا فقط يكون الوصف إيجابياً كونه دهاء (نبيلاً خيّراً).

إبليس، وكان من المفروض لو لم يعص أن نُسلِّم عليه تسليماً كثيراً، ذكي في فعل الشر، أي بمعنى داهية بل وداهية الدهاة، ومما يحسب له أنه طلب من ربه وهو يؤمن به أن يمهله إلى يوم الدين فكان عاملاً دؤوباً لا يكل ولا يمل من أداء أعماله على أكمل وجه يتطلبه عمله (غير الخيِّر)، في كل الأوقات والأزمنة، بل يتفانى في أداء مهامه القذرة الشريرة، ويديرها بكل إتقان، وهو لا يُجاز أبداً ولا حتى في نهاية الأسبوع، ولا ينام لأن دوماً هناك بشراً مستيقظين ولا نقول يقظين، وماذا يعني ذاك، فحتى النائم بسلام لا يتركه في نومه، بل يوسوس له ويبعث الكوابيس التي تؤرقه، وأحياناً بناء عليها يتخذ، النائم، قرارات (غير ذات جدوى).

إن كان من شيء إيجابي وحيد في إبليس أو لنقل غير سلبي بالمطلق، هو عدم يأسه، فيظل صبوراً يوسوس ويوسوس حتى لو لم ينجح وبذا فقد صدق وعده مع الله أنه سيعمل طالما هناك دنيا الى آخر رمق ليغوي من استطاع إليه سبيلاً من البشر وهو لا يكتفي منهم بقليل بل يحاول مع الجميع. وتركه الله يفعل ذلك واثقاً من عباده الصالحين ولا نعلم عددهم، الله يعلمهم!

حقيقة أن من قارنَ بن وذنان هذا بإبليس كان ظالماً إبليس. ليس ادعاء بأن بن قرفان فاقه في "البلاسة" وأن إبليس حمل وديع مقارنة به، لا أبداً، بل السبب أن إبليس ملك مميز عن أقرانه من الملوك بينما هذا ليس ملكاً ولا مميزاً. ابن مُقْزِزْ شخص غبي جاهل متخلف قدراته محدودة بينما إبليس ذو علم في حدود ما علمه الله، ذكي له قدرات استثنائية، أو كما يقول إخوتنا التوانسة "إيكسبسونال". فوق هذا إبليس معتد بنفسه لأنه من خلقٍ مميز وليس تابعاً بل متبوع.

يمكن أنْ نقول إن بن غبيان هو أحد التلاميذ غير النجباء لأحد تلاميذ إبليس. حاول أن يصبح "شيطاناً أنسياً" لازمه الفشل الذريع، فقط تعلم كيف يوسوس في آذان من وجدهم يفوقونه غباء بسنوات ضوئية.

القذافي ملك بعد أزمة العقار في الولايات المتحدة 2008-2009 ما قيمته تفوق التريليون، وبذا وقتها كان أغنى العرب وأبخل العرب. قبلها في عشرين سنة، صرف مثل هذا الرقم على نزواته الشيطانية التي يملك منها الكثير، لدرجة أننا نتندر عليه بالقول جاءه إبليس مناصحاً، فاستمع له، ولم تعجبه الفكرة، فهمس في أذن إبليس بفكرة أخرى، جعلت إبليس (يتنطط) ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم!

لم يغن عن القذافي ماله ولا سلطانه، وهي وردت في آية استهزأ بها، لن أقول حشرة فالحشرات مفيدة أحياناً وتنقل أشياء من مكان لمكان فتثري بل أقل من حشرة، مذيع مصري يدعى عيسى؛ استُعِملَ ثم حُنِط. وانتهى القذافي في حفرة مجارٍ يستجدي شباباً صغاراً ألا يتعدوا عليه، وانتهى كما انتهى معظم الطغاة أمثاله "وراحت فلوسك يا صابر" رغم أنها فلوس الشعب الليبي بين المنافي والبنوك والسراق وجزر الوقواق.

القذافي بعد أن جُمِدَ الصندوق السيادي لليبيا فترة الحظر الجوي، ورغم أنه "مدكن قرشين" في غرائر وحسابات عبيده، إلا أنه لن نقول مر بضائقة لكنه كان دوماً في خوف يصل إلى الهلع، أن ينتهي ما يملك قبل أن ينتهي الحظر، رغم أنه كان يصدر البترول والغاز والبتروكيماويات، وقال قبل الحظر بلسانه إنه يملك ستين ملياراً من الدولارات و"فراطة تقدر بكذا مليار" - سماه مجنب - أي موضوع في صندوق الدولة السيادي، إضافة لأسهم في شركات أوروبية تقدر برقم جيد في دولة تعدادها آنذاك أربعة ملايين ونيف تقريباً، بخلاف المغتربين.

استغل الحظر على سفر الليبيين، فتلاعب بأسعار العملة، وكان أشبه بـ"معلم" هيروين كبير يملك كل السوق، وربما أولئك أكثر رحمة منه، فجاع الليبيون واغتنى هو بحجة الحظر. عمل أموالاً في سبع عجاف مرت على الليبيين، باع فيها البترول والغاز والذهب لأوروبا، والبتروكيماويات للصين وفق حصته. وزاد عليها أن قايض أو باع في السوق السوداء كميات إضافية، وتلاعب بسعر العملة، بعد أن كان ما يتقاضاه الليبي يعادل في المتوسط ألفاً ومئتي دولار، هو عموماً لا يأخذها في يده طبعاً بل قيمة معيارية للعملة الليبية.
خلق تضخماً كذاك الذي حصل لتركيا في الثمانينيات وقد شهدته وقتها فتى صغيراً رافقت أبي وأختي لتركيا كي نحضر جهاز أختي من السلك للإبرة إلى البندقية "التي كنا سنطلق منها طلقات ابتهاجاً"، مع ملاحظة أننا نحن الليبيين الآن ولسذاجتنا تركنا (خليفة) القذافي - عدونا - وأصبحنا وبكل أسف كل حزب بما لديهم فرحون ويعيرون الطرف الآخر على أساس جهوي بحت في دولة ننتج البترول في الغالب بكفاءات وطنية من كلا الضدين، وذلك من فضل الله، ولا ننتج سواه غير ما يجعل "مجاري" كبريات مدننا تعاني من الطفح المستمر، كونها لم تحدث من فترة لتناسب هذه الزيادة المضطردة في إنتاج ما نخرجه، والذي لو احتبس بداخلنا لتوقفت الحرب والتهينا في إيجاد حل لهذه المعضلة (المميتة كالحرب وأكثر). وفوق ذاك لا نجيد حتى تنفيذ صناعة بقدم التاريخ، تفيد في استغلال هذا الطفح وإعادة تدويره ليصبح مفيداً مثلاً في الزراعة، الشيء الوحيد الذي نتقنه قليلاً، بفضل الطليان، ورغم ذلك هجره معظمنا، فـ"لا تعايريني ولا أعايرك... الهم طايلني وطايلك". عندما كنا نساعد تركيا قبيل ثلاثين عاماً، كانت مشكلتنا أننا لا نملك سوى اقتصاد ريعي معتمد على ثروات هي بأمر الله وأصبحت نقمة لاحقاً، وقتها كانت تركيا غارقة حتى "شوشتها" في الديون، الآن أين نحن من تركيا التي غزت الفضاء بأقمارها الصناعية.

حصل مثل ما حدث في تركيا لدول المنظومة الشرقية في النصف الثاني من الثمانينيات. زرت عديداً من البلدان في المنظومة الشرقية في الفترة ما بين 1989 إلى 1991 وكنت أعيش مرتاحاً جداً بألفي دولار. أسكن الخمس نجوم وأستأجر أفضل الشقق المؤثثة في أفضل الأماكن، فقط في حدود مئتي دولار شهرياً للشقة، وعشرة دولارات لمبيت ليلة في فندق خمس نجوم. في وارسو، عاصمة بولونيا، كان سعر الدولار يلامس مليوناً ونصف المليون زلوتي بينما في بنكهم المركزي يعدل حوالى المائة ألفاً وثلاثين أو خمسين في أفضل الأحوال. في براغ عاصمة تشيكسلوفاكيا، كان دولارا واحدا في البنك بين ثمانية وتسعة كرونات بينما في الخارج يصل إلى اثنين وخمسين وهي أفضل حالاً من بولندا.

أما في ليبيا بعد آخر تلك الرحلات المطولة، فقد ارتفع الدولار بداية الحظر إلى ستة أضعاف قيمته البنكية، وانتهى به الأمر في أواخر سنوات الحظر أن ناطحت قيمته أربعة عشر ضعفاً لما يفترض أن يكون عليه، وإثرها قامت سياسة تدرج في خفض قيمة الدولار إلى أن صار الدولار تقريباً ليس بعيداً في قيمته عن الدينار الليبي، الذي كان أكثر بركة حين كان جنيهاً ليبياً. هنا اخترعنا سياسة بنكية ما سبقنا إليها أحد من العالمين تمثلت في وجود أربعة أسعار للدولار "رسمية كلها"، بحيث كان الدينار الليبي، ومنذ بدء الحظر إلى انتهائه، والذي نعتوه كذباً وزوراً وبهتاناً بالحصار، بعد تحويله إلى دولار وبيعه في تونس يصل الى ثلاثة دنانير ونصف دينار تونسي وأكثر، وبعد تسع سنوات أصبح الدينار الليبي قيمته ربع دينار تونسي وسموه "كلينكس".

بانتهاء الحظر ملك القذافي أكثر من ثلاثمائة وخمسين ملياراً حينها من الدولارات، حين أوقف كل المشاريع، واقتصر الإنفاق على الأكل والشرب وأحياناً الملبس، وتمسك القذافي في كل خطاباته بالرقم الذي أعلنه قبل عقد من الزمن، وهو خمسة وستون ملياراً من الدولارات كـ"مجنب" فقط لا غير. كل الليبيين كانوا يعرفون أين يخزن معمر أمواله وكلهم يعتقد أن هذا سر لا يعلمه من بعد الله إلا هو ومن روى إليه أو عنه، ومعمر فقط.

بعد الحظر، ازداد خوف معمر من وضع الأموال باسم الدولة فكان يوزعها بين حسابات خُدامه وعبيده الذين حقيقة لا يثِق بإخلاصهم بل في خوفهم منه كون أنه "ماسكهم من اليد اللي توجعهم". أفضل دليل على أن شكري غانم الذي أحضره ابنه سيف عام 2004 وزيراً للاقتصاد واسم طويل لاحق، ثم رئيساً للوزراء عامي 2005 و2006 وبعدها رئيساً لمؤسسة النفط والغاز، الدكتور شكري غانم، اغتيل لأشهر بعد ثورة فبراير وألُقِيَ في أحد مجاري نهر الدانوب، وأعلن أن في حوزته خمسة عشر ملياراً في بنوك سويسرا التي لا ترجع أبداً الأمانات إلى أهلها، بالتأكيد هي وديعة عنده وليست له. وضاعت مبالغ مماثلة إما بالتجميد أو بالتأميم أو بالتآمر على صرفها، كما حدث في الإمارات التي تصرف على حفتر من ثلاثين ملياراً ونيف مودعات لديها إضافة لعشرين كانت موزعة بين أتباع القذافي وكلابه. ها نحن تطرقنا ثانية للكلاب رغم تعدادنا لمآثرها، لنعتبر أنه وصف إيجابي دالّ على الوفاء! هذا يعني أن ما تصرفه الإمارات على حفتر مقابل أن باع لها ليبيا بما حملت هي تجسد فعلاً المثل الشعبي "من دقنو وافتلوا".

معمر كانت الأبالسة الصغار سابقاً تتعوذ مما يفعل، وربما هو كبيرهم الذي علمهم "البلاسة"، حيث كان الأقل غباء، والغباء موجود في الإنسان بالفطرة وليس مذمة إطلاقاً. خلق البشر وفق حديث الدراسات والتطورات العلمية بمعدلات ذكاء تنحصر بين رقمين، إن وقع البشري بينهما كان آمنا من الناحية الذهنية ومن حيث الذكاء، رغم التفاوت في القدرات، فالأعلى حسابياً في هذا الرقم يتميز عن من دونه، ولكل منهم مزاياه، فحين تجد هذا بارعاً في شيء يقابله آخر يملك ذات البراعة في شيء مختلف. ومن شذ عن هذا المعدل المسمى "آي كيو"؛ إما أن يكون عبقرياً مجنوناً ربما، أو متخلفاً في استيعابه الأشياء، وهذه درجات تبدأ من "العبط" وتنتهي بالتخلف الذهني، وعلى حافة المعدل القياسي يقف عديم القدرة على الإنجاز أو التفكير المنطقي. لم نظلم الغباء وننعت به بعض البشر رغم أن الإنسان لا يملك تغيير ذلك من أمر نفسه. مع هذا لا أجد غيره للمقارنة بين سيئين مثلاً. لذا أقول إن القذافي كان أكثر المتألهين غباء من غيره الذين يحاكون "وساخته"، ويأخذونه مثلاً من حيث يدرون أو لا يدرون! مات إبليس فشهدنا تكالباً على من يحل محله؛ والمرشحون كثر...

8E38CF27-B10A-4916-A022-177616221C42
أحمد يوسف علي
مختص في نظم المعلومات ومحاضر جامعي سابق.