الفيلسوف سيلافوي جيجيك شجيع السيما!

الفيلسوف سيلافوي جيجيك شجيع السيما!

01 سبتمبر 2019
+ الخط -
يومها، اتجهت إلى قاعة العرض وكان يسير أمامي شخصان، يحمل أحدهما حقيبة مليئة بالكتب، قلت لنفسي: طبيعي ألا يشاهد فيلماً كهذا إلا مهووس بالكتب مثل أخينا وصديقته، وحمدت الله أنني وجدت من يدخل هذا الفيلم معي، بدل أن أبقى في قاعة العرض لوحدي، لكنني عندما دخلت إلى قاعة العرض متوسطة الحجم وجدتها ممتلئة عن آخرها، ربما لتذكرني بأنني في نيويورك عاصمة الثقافة، التي تشهد كل يوم عروضا لعشرات الأفلام التجريبية والمستقلة المليئة بالمغامرات الفنية المختلفة والصادمة والمملة أحياناً.

نادراً ما تجد قاعة عرض للأفلام في نيويورك خاوية من روادها، أيا كانت نوعية الفيلم المعروض والمغامرة الفنية التي يقدمها، على الأقل خلال أول ثلاثة أيام من افتتاح الفيلم وقبل أن تسري سمعته السيئة الطاردة للجمهور، ومع أنني أصبحت أعرف ذلك بالتجربة إلا أنني لم أكن أتوقع أن أجد إقبالاً على فيلم ينفرد ببطولته مفكر وفيلسوف، خصوصاً أنه ليس فيلماً روائياً يحكي عن حياة هذا المفكر والفيلسوف كما كان عليه الحال مثلاً في فيلم (حنة أرندت) ألماني الإنتاج، وليس فيلما تسجيليا يقدم حوارا مع هذا المفكر مستعيناً بالرسوم المتحركة والصور كما كان عليه الحال مثلاً في فيلم "هل الرجل الطويل أسعد حالا؟" الذي يقدم مخرجه حواراً مطولاً مع المفكر المستقل وعالم اللغويات الشهير ناعوم تشومسكي.

يحمل الفيلم البريطاني الذي أحدثك عنه عنواناً ساخراً هو (دليل المنحرف إلى الأيديولوجيا)، يلعب فيه المفكر السلوفيني اليساري سلافوي جيجيك دور فتى الشاشة الأول والوحيد على مدى ساعتين كاملتين، يقدم فيهما تحليله الفلسفي لعدد من أهم أفلام السينما العالمية مثل (تايتانيك) و(سائق التاكسي) و(البرتقالة الآلية) و(سترة معدنية ممتلئة) و(برازيل) و(الباحثون) و(صوت الموسيقى) و(قصة الحي الغربي) و(الفك المفترس)، مفتشاً عن الأفكار والرؤى التي تسعى هذه الأفلام وغيرها للتعبير عنها وترويجها لدى الجمهور حتى لو أنكر صناعها ذلك، وحتى لو لم يتنبه المشاهدون إلى وجود هذه الرؤى الفكرية بشكل واضح، بسبب إتقان حبكة الفيلم أو إمتاعه للمشاهدين.

لم تكن تلك أول تجربة لسلافوي جيجيك مع البطولة المطلقة، فقد كانت التجربة الاولى عام 2006 مع نفس المخرجة البريطانية صوفي فينيس في فيلم حمل عنوان (دليل المنحرف إلى السينما)، لم أكن قد شاهدت الفيلم الأول الذي اكتشفت فيما بعد أنه موجود على موقع اليوتيوب، لكني كنت قد تعرفت على تجربة سابقة قام بها سلافوي جيجيك بتحليل عمل فني وتأمل أبعاده الفكرية والإجتماعية، عندما كتب دراسة مطولة عن المسلسل الأمريكي الشهير "The Wire" بأجزائه الخمسة، نشرت في كتابه (سنة الأحلام الخطيرة) الذي ترجمه إلى العربية أمير زكي وأصدرته دار التنوير، ولأن كتابة سلافوي جيجيك عن المسلسل كانت من الطراز الثقيل ـ فكراً لا ظلاً ـ فقد شوقتني لمعرفة كيف سيستطيع ذلك الفيلسوف التواصل مع جمهور السينما، خاصة أن من شاهد له مقابلات تلفزيونية يعرف اللكنة الثقيلة التي يتكلم بها الإنجليزية، والتي نجح بشكل ما في تحويلها إلى نقطة قوة، بحيث يضفي على كلامه وحركاته العصبية طرافة تدفع للتركيز معه لا النفور منه، لدرجة أنني تمنيت في نهاية الفيلم أن يتأثر الكاتب سلافوي جيجيك بأسلوب المتحدث السينمائي سلافوي جيجيك لتبدو كتابته أسلس وأمتع.

في تجربتها الثانية مع سلافوي جيجيك، حاولت المخرجة صوفي فينيس تطوير أسلوبها في الفيلم السابق الذي كان تقليديا للغاية، ومعتمدا في التنويع البصري فقط على عرض مقاطع الأفلام التي يحللها جيجيك، ربما لأنها لم تكن على ثقة في أن يتقبل الجمهور الفكرة أصلا، ولذلك كانت تعمل في ظل ميزانية شبه منعدمة، لكن نجاح الفكرة في الوصول إلى قطاع ما من الجمهور، وتزايد شعبية سلافوي جيجيك في السنوات الأخيرة، كان بالتأكيد سببا في زيادة ميزانية فيلمها الثاني، فتمكنت من إعادة بناء ديكورات مختارة من الأفلام التي يتحدث عنها جيجيك، لتكون تلك الديكورات موقع التصوير الذي يتحدث فيه لمشاهديه، وتتم إضافة لمسة بسيطة لكنها في غاية الطرافة، وهي ارتداء سلافوي جيجيك لملابس مطابقة لملابس بطل الفيلم الذي يتحدث عنه، فيرتدي ملابس مشابهة لتلك التي ارتداها روبرت دي نيرو في فيلم (سائق التاكسي)، أو يركب قارباً مشابها للقارب الذي نجت بفضله كيت وينسلت في فيلم (تايتانيك)، أو يجلس على كرسي تواليت داخل حمام يشبه حمام الثكنة العسكرية في فيلم ستانلي كوبريك الشهير (سترة معدنية كاملة)، أو يرتدي ملابس راهب عندما يتحدث عن فيلم (صوت الموسيقى)، لتتناغم تلك اللمسة مع تحليله الذي لا يخلو من السخرية وتساعد على كسر الملل الذي قد ينتجه انفراده بالشاشة طيلة وقت عرض الفيلم.

أشياء كثيرة يمكن أن تقال في نقد الفيلم وما به من مشاكل، أهمها طول مدته الذي ربما جعل مشاهدته في السينما أمرا مرهقا، مقارنة بمشاهدته المنزلية التي يمكن أن تقسمه إلى أجزاء، خاصة أن جيجيك وبرغم الفكرة الشاملة للفيلم يقدم لكل فيلم قراءة منفصلة يبدو بعضها مقنعا ويبدو بعضها مبالغا في تحليله للفيلم. لكن وبرغم كل هذه المشاكل التي تقلل أحيانا من استمتاعك بالفيلم، تبقى فكرة تخصيص فيلم بأكمله لكي يتحدث فيه مفكر وفيلسوف للجمهور فكرة مثيرة للإعجاب والتقدير والحسرة أيضا، بالنسبة للقادمين أمثالي من بلاد لم يظهر فيها مفكر على شاشة السينما اللهم إلا مرتين عابرتين على حد معلوماتي، المرة الأولى كانت عندما ظهر توفيق الحكيم كضيف شرف في فيلم (عصفور من الشرق) المأخوذ عن قصة له، والثانية كانت عندما ظهر المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد كضيف شرف في أحد مشاهد فيلم (الآخر).

ما قام به سلافوي جيجيك في فيلميه ذكرني بمحاولات كان قد قام بها المفكر المصري الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري لتحليل بعض الأعمال الفنية تحليلا فكريا يربطها بالبنية الثقافية للمجتمع، حتى أنه قام بكتابة تحليل مثير للجدل عن ظاهرة الفيديو كليبات العارية وآخر عن كارتونات توم وجيري، وهو ما جعلني أضحك، ليس فقط لما أثارته تلك التحليلات من سخرية لدى بعضنا برغم تقديره للمسيري، لأننا رأيناها متعسفة في التحليل ومحملة للأمور فوق ما تحتمله، لكن لأنني تخيلت ما الذي يمكن أن يحدث لو كان أحد زملائي من السينمائيين، ولا أقول لو كنت أنا فأنا أعقل من ذلك، قد قام بعرض فكرة على أحد المنتجين بإنتاج فيلم تسجيلي يقوم فيه مفكر أو أستاذ فلسفة أو حتى روائي بعمل تحليل فكري وفلسفي لأشهر أفلام السينما المصرية، بالتأكيد كانت فكرة فيلم مثل هذه لن تجد طريقها إلى صفحات الفن، بل إلى صفحات الحوادث التي ستغطي أخبار الإشتباك البدني الذي اندلع بين صديقنا والمنتج. على أية حال الأمر الآن أسوأ، لأننا لا نمتلك فقط منتجا فردا أو منتجا مؤسسة يمكن أن يتحمس لمشروع كهذا، بل لا نمتلك أيضا مفكرا أو فيلسوفا قادرا على التواصل مع الجمهور بشكل كالذي فعله سلافوي جيجيك في فيلميه، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.