رجل من وِسط الرجّالة!

رجل من وِسط الرجّالة!

29 اغسطس 2019
+ الخط -
من أطرف وأقسى وأدلّ ما سمعته يوما من إحدى الريفيات المطحونات في كل أصناف العمل، والتي كانت تعول زوجا وخمسة من الأطفال، أنها ظلت تعمل بلا انقطاع منذ كانت في العاشرة من عمرها، وعندما تزوجت بدا لها أن صهد العمل في المدينة قد يكون أرحم من نار الكدح في الحقول، بالذات مع ما يضاف لتلك النار من حِمم سوء معاملة أهل الزوج والحروب المستعرة معهم ليل نهار، فكان أن انتقلت مع الزوج والعيال لأطراف المدينة، وعملت طوال السنين في الخدمة الشاقة في المستشفيات والمساجد والبيوت، وكانت على استعداد للعمل عشرين ساعة في اليوم كي لا تحرم أطفالها ما يرونه ويتمنونه من طعام وملابس ونزهات.

وكان الزوج، كالعادة، عاجزا عن العمل بمثل معشار عملها. فبينما تجد هي ما تفعله وتتقاضى عليه مالا لفترتي عمل في اليوم، يعجز الذكر "المسكين قليل الحيلة" عن إيجاد ما يستحق عليه الأجر ولو ليوم واحد كل أسبوع.. سبحان الله!


والطريف أنها لم تكن تجد في ذلك غضاضة. أو ربما وجدت وآثرت التغافل. فأحيانا يميل الناس لمكافحة مثل هذه الأوضاع المقلوبة بالسير على أيديهم بدلا من المعاناة في رؤية الأمور على حقيقتها. أو ربما هو الحب الذي لن يفهمه سواها.

وعندما أتموا بناء بيت صغير في إحدى عشوائيات المدينة، وكان غالبه بمالها، وشارك الزوج بنسبة صغيرة جدا من ثمنه بمال جاءه صدفة من ميراث ضعيف، كان من الطبيعي جدا أن يُكتب البيت كله باسمه. ولو تعجب السامع من ذلك وسأل: ولماذا لا يُكتب مشاركةً بينكما بنسبة ما دفعتموه؟ كانت تتعجب هي في المقابل من الفكرة "البذيئة"، وترمق السائل بنظرة إعادة تقييم يبدو فيها مارقا جانحا عن الأصول والتقاليد و"أخلاق القرية" التي تُجرِّم مثل هذه الأفكار التي تعطي كل ذي حق حقه.. بالذات لو كان الحق لامرأة والعياذ بالله!

ثم تقول بنبرة من تعلِّم حمارا: يا عيب الشوم! وهو يصح برضك ينكتب اسم حُرمة في قعدة الرجّالة؟

وكان الواحد يستمع ويحاول أن يفهم كما قد يفهم الحمار، فيعجز ويداري غصة العجز والغباء بادعاء التفهم والتعاطف والنأي عن الحكم على من لم نختبر ظروفهم وعقولهم.

حتى جاء اليوم الذي حكت فيه بفخر عن زوجها الإنسان الشهم المتدين الذي حضر صلاة الجمعة في الجامع القريب من دارهم، فوجد "الرجّالة" يتفقون بعد الصلاة على إعادة تسقيف المبنى وتجهيزه، ويبادرون بجمع المال من البعض في نفس القعدة، أو تسجيل أسماء من سيتبرعون لاحقا مع كتابة المبلغ الذي سيسددونه. فما كان من الرجل الذي لم يكن في جيبه يومها عشرون جنيها، وكان عاجزا عن توفير وجبة العشاء لأسرته، إلا أن طلب منهم تسجيل اسمه بأنه سيتبرع بثلاثمائة جنيه. الرجل أعطى كلمته الغالية للرجّالة، وكانت هي من سيتولى الوفاء بها بثمن شقاء أسبوع طبعا!

ولو شعرتَ ساعتها بحرقة في الجانب الأيسر من الصدر، وآلام في الكتف والذراع والظهر، وشككت في تعرضك لبدايات الذبحة الصدرية التي قد تودي بحياتك أو تعرضك للشلل بعد سماع هذه الملحمة الدينية الملهِمة، كانت تنظر هي لك بتوجس، وتحاول للمرة الألف أن تُفهِم الحمير وهي تقول بثقة:

زيه زي اللي دفعوا.. وهو يصح يقف بطوله كده ما يدفعش لبيت ربنا وسط الرجّالة؟!
6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى