يهشّون عند المائدة!

يهشّون عند المائدة!

28 اغسطس 2019
+ الخط -
قيل لفقير جائع:
- كم اثنين في اثنين؟
قال:
- أربعة أرغفة.

(1)
جاءت امرأة إلى الليث بن سعد وفي يدها قدح، فسألت عسلاً، وقالت: زوجي مريض، فأمر لها براوية عسل، فقالوا: يا ابن سعد: إنما تسأل قدحاً. قال: سألت على قدرها ونعطيها على قدرنا. وقيل للمغيرة بن شعبة: من أحسن الناس؟ قال: من حسن في عيشه عيش غيره. وعن عمر بن الخطاب قال: أسعد الناس من سعد به الناس وأشقاهم من شقوا به. وعن سفيان الثوري: إنّي لألقى الرجل فيقول لي مرحباً فيلين له قلبي فكيف بمن أطأ بساطه وآكل ثريده وأزدرد عصيده؟

(2)
أبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة جاء بأمثلة عن حالة البؤس التي انحدر إليها أهل الفكر في عصره. فقد كان أبو سليمان المنطقي السجستاني سيد علماء عصره بحاجة ماسة إلى رغيف، وحوله وقوته عجزا عن أجرة مسكنه، ووجبة الغداء والعشاء. وكان أبو سعيد السيرافي عالم العالم، وشيخ الدنيا، ومقنع أهل الأرض، ينسخ في اليوم عشر وريقات بعشرة دراهم، ليعيش. وقد شوهد المعافى بن زكريا النهرواني في جامع الرصافة وقد نام مستدبر الشمس في يوم شاتٍ، وبه من أثر الفقر والبؤس أمر عظيم، مع غزارة علمه واتساع أدبه وفضله المشهور. ونرجع فنقول: نعوذ بالله من الفقر والجوع، وقد بلينا بهذا الدهر الفقير من الصالحين الذين يصلحون أنفسهم ويصلحون غيرهم بفضل صلاحهم ويهشون عند المائدة. وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يتعوذ من الكفر والفقر، فقال له رجل: أيستويان؟ فقال: نعم كاد الفقر أن يكون كفراً.


(3)
وسُئل أعرابي: لو كنت خليفة كيف كنت تصنع؟ قال: كنت أولي شريف كل قوم ناحيته، ثم أخلو بالمطبخ، فآمر الطهاة، فيعظِّمون الثريد ويكثرون اللَّحم والعظم والمرق، فأبدأ فآكل لقماً، ثم آذن للناس، فأي صنيع يكون بعد هذا؟ لقد أدرك هذا الأعرابي القادم من مجاهل الصحراء في قوله هذا جوهر العلاقة بين الراعي والرعية. وأزعم - وعساه يكون زعماً مقبولاً - لا عيب أن تقوم العلاقة بين الحاكم والمحكوم على إطعام الجياع والمساكين وأهل السبيل. وأحسبها بادرة طيبة أن يكون للحاكم مطاعم شعبيَّة في الأحياء الفقيرة، بسيطة في شكلها، مجانيَّة في تعاملها مع الخلق، منتشرة في أرجاء البلاد، يجلس على موائدها من شاء، ليأكل ما شاء، كما يشاء، بلا حسيب أو رقيب. وإطعام الجياع مهمة جليلة تستحق الثناء والتقدير. وفي القرآن: "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا" (8) "إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا" (9) (سورة الإنسان).

(4)
والمطعمون من أهل الخير والكرم والبركة والصدقات لا يمل حديثهم مع أنه معاد، تقرؤه أو تسمعه كأنك تسمعه أول مرة. وقد خاض الناس قديماً وحديثاً خوضاً مشبعاً في هذا الموضوع، ونحن هنا إذ ننقب في بطون الكتب قصدنا أن نعيد هذا القول الطريف اللطيف من الكلام إلى الحياة، وأن نستحثّ أهل الخير على صنع المعروف بين الناس. وقد قال النبي: تجافوا عن ذنب السخي فإن الله يأخذ بيده كلما عثر. وقيل لإبراهيم الخليل - عليه السلام - بأي شيء اتخذك الله خليلاً؟ قال: ما خيرت بين أمرين إلا اخترت الذي اختاره لله، وما تغديت وما تعشيت إلا مع ضيف. وقال الأصمعي: قال بعض العرب: ليست الفتوة الفسق ولا الفجور، ولا شرب الخمور، وإنما الفتوة طعام موضوع، وصنيع مصنوع، ومكان مرفوع، ولسان معسول، ونائل مبذول، وعفاف معروف، وأذى مكفوف.

(5)
قال بعض الأعراب: قدم علينا الحكم بن المخزومي ولا مال لنا فأغنانا عن آخرنا، فقيل كيف ذلك؟ فقالوا: عَلَّمنا مكارم الأخلاق فعاد أغنياؤنا على فقرائنا فصرنا كلنا أجواداً. وقال إبراهيم بن الجنيد: أربع لا ينبغي لشريف أن يأنف منهن وإن كان أميراً: قيامه من مجلسه لأبيه، وخدمته للعالم يتعلم منه، والسؤال عما لا يعلم ممن هو أعلم منه، وخدمته الضيف بنفسه إكراماً له. وكان السلف الصالح من الكرام الذين يتسعون في أحوالهم يوسعون على غيرهم من سعتهم وكانوا يرون الغنيمة في الكرم، والربح في البذل، والحظ في الإيثار، والزيادة في النقص، والشاعر يقول:
أنت للمال إذا أمسكته
فإذا أنفقته فالمال لك

(6)
نعم، كانوا إذا ولوا عدلوا، وإذا ملكوا أنعموا، وإذا أعطوا أجزلوا، وإذا سئلوا أجابوا، وإذا افتقروا صبروا، وإذا نالوا شكروا. وكان لهم مع عباد الله معاملة جميلة. وكانوا إذا تلاقوا تواصوا بالخير، وتناهوا عن الشر، وتنافسوا في المعروف، لقد اجتهدوا أن يكونوا خلفاء الله على عباد الله بالرأفة والرحمة والعدل. أين نحن من أولئك القوم الأبرار؟

عبد الرزاق دحنون
عبد الرزاق دحنون
كاتب سوري.. بدأ الكتابة عام 1980 في مجلة الهدف التي أسسها غسان كنفاني.