في الحيلة لدفع الأحزان... قراءة في رسالة منسية لـ"الكندي"

في الحيلة لدفع الأحزان... قراءة في رسالة منسية لـ"الكندي"

27 اغسطس 2019
+ الخط -

قراءة في رسالة منسيَّة لأبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي..

كنتُ في ركني الحميم في منزلي في مدينة إدلب أكتب عن الكندي من خلال رسالة طريفة سماها "في الحيلة لدفع الأحزان" وأبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي لقبه "فيلسوف العرب" وهو لقب قديم، يذكره ابن النديم في "الفهرست".

في هذه الرسالة التي وجهها إلى صديق طلب منه أن يضع رسالة في دفع الأحزان. يبدأ الكندي بأن يبيِّن أن كل ألم لا يُعرف سببه لا يُرجى شفاؤه. وينبغي بيان سبب الحزن. ولهذا يُعرِّف الحزن بأنه ألم نفسانيٌّ ناتجٌ من فقد أشياء محبوبة أو من عدم تحقيق رغبات مطلوبة. فلننظر هل يمكن إنساناً من الناس التخلص من هذين السببين؟

يقسِّم الكندي في بحثه هذه المحبوبات والمطلوبات إلى حسيَّة وعقليَّة:
فالأولى مصيرها الزوال، وبالتالي يحزن الإنسان لفسادها وزوالها ويشعر بالآلام. أما الثانية فهي دائمة وثابتة لا تتعرض لفقد أو فوات. ولذلك، فمن كان يريد أن يُرَى سعيداً ويطرح عن نفسه آلام الحزن، فيجب عليه أن يروم محبوباته ومطلوباته في العالم العقلي لا العالم الحسي..

يقول الكندي:
فإن أحببنا ألا نفقد محبوباتنا، ولا تفوتنا طلباتنا، فينبغي أن نشاهد العالم العقلي، وتصير محبوبتنا وقنْياتنا -أي ممتلكاتنا- وإرادتنا منه. فإنا إذا فعلنا ذلك أمنَّا أن يغصبنا قنياتنا أحد، أو تملكها علينا يد، وأن نعدم ما أحببنا منها، إذ لا تنالها الآفات، ولا يلحقها الممات. ويرى أن الإنسان معرض دائماً لفقد محبوب، وفوات مطلوب مرغوب فيه، فإن هو حزن لذلك فإنه سوف يكون دائم الحزن. لذلك فإنه ينبغي ألا نحزن على الفائتات، ولا فقد المحبوبات، وأن نجعل أنفسنا، بالعادة الجميلة، راضية بكل حال، لنكون مسرورين أبداً.


وهُنا توقفت لوحة مفاتيح الكمبيوتر عن الكلام المُباح وخرجتُ من دياري وانصرفتُ عنها كما قيل في المثل مكره أخوك لا بطل. خرجتُ حزيناً من مدينتي وملعب أهلي وناسي في رحلة رحيل شاقة إلى مدينة إزمير على شاطئ بحر إيجة هارباً من حرب ضروس أفنت البشر والحجر..

نحن الآن في مدينة أخرى، علَّقنا أحلامنا على مشاجبها، وتركنا بسُقُوف بيوتنا، بصلاً، وبامية، ورماناً، وتيناً يابساً، وثوماً للشتاءْ، تركنا حليباً في أَضرع أبقارنا، وتركنا رفَّ حمامنا المنزليّ بلا ماء، وتركنا الطائرات الحربية تُحلّق في الأجواء، وأعطينا لزغب القطا طوق النجاة، ثمَّ عبرنا جسر الموت إلى الحياة.

توقفت الكتابة في هذا المقال من ثلاث سنوات بسبب بقاء رسالة الكندي في مكتبتي البعيدة. إلى أن اهتديت إلى مقال عن رسالة الكندي المنسية هذه كتبه الدكتور المغربي عبد الله رمضاني-حيَّاه الله وأمده بالصّحة والعافية- في العدد (506) الصادر يوم السبت 10/11/2018 من المجلة العربية. فرحتُ بالمقال فرح الطفل بالعيد لأنه أعاد لي ما فقدت وحزنتُ من أجله. وها أنا أكمل مقالي مستطيعاً بغيري.

انطلق الكندي في رسم علاج الحزن من مسلَّمة أساسية هي: كل ألم لا يُعرف سببه لا يُرجى علاجُه، ولهذا، حسب رأيه، ينبغي تبيين سبب الحزن ليمكن وصف علاجه.. ومن الأساليب التي يعتمدها الكندي لدفع الحزن أن نفكر في الحزن ونقسمه إلى نوعين:

الأول يحدث بسبب فعل نقوم به، ويتوقف أمره على إرادتنا. الثاني ينشأ عن عمل يقوم به الغير ويتوقف أمره على إرادته. النوع الأول من الحزن يمكن التخلص منه، لأننا نستطيع أن نجنب أنفسنا السبب في هذا الحزن ونزهد فيه.

وأما ما يصدر بسبب غيرنا فيجب علينا ألا نحزن قبل وقوع هذا الفعل. وفي حالة حدوث هذا الفعل وكان سبباً في حزننا فينبغي علينا أن نجتهد في الحيلة للتلطف لتقصير مدة الحزن. فإنَّا إن قصَّرنا في ذلك كنَّا مقصرين في مهمة دفع البلاء الذي يمكننا دفعه، وبالتالي فمن يحزن يؤذ نفسه، ومن يؤذ نفسه يكن شقيَّاً ظالماً.

من الأساليب التي يقترحها الكندي أيضا للتخلص من الحزن، عملية استذكار الأسباب التي كانت وراء حزننا وحزن غيرنا، فهي -استذكار الأسباب- وسيلة فعالة تمدنا بقوة عظيمة للسلوة من الأحزان. وبهذه المناسبة يستدل الكندي برسالة بعث بها الإسكندر المقدوني إلى أمه يعزِّيها وهو على فراش الموت. مفادها أنه طلب منها ألا تحزن، لأن كل شيء في الدنيا زائل، وأنه إذا مات فلتجمع الناس على طعام وشراب، وليصرخ الصارخ ألا يحضر كل من أصابته مصيبة فلم يحضر أحد.

وربط الكندي بين الحزن والملكيَّة، لأنهم قالوا: المالك للشيء مملوك له، ومن أراد الحرية فليخرج من ملكوت الرغبة، لذلك يرى أن علينا ألا نملك شيئاً زائداً عن الحاجة حتى لا نفقده فيكون فقدانه سبباً للحزن.

وفي هذا السياق، يذكر الكندي لصديقه حكاية نيرون الذي أُهدِي كرة من البلور عجيبة الصَّنعة، فسُرّ بها كثيراً، ومدحها الحاضرون من خاصته، وكان بينهم أحد الفلاسفة، فسأله نيرون عن رأيه في كرة البلور، فأجاب الفيلسوف بأنها تنطوي على مصيبة ستحدث، فقال نيرون: كيف ذلك؟ فقال الفيلسوف: لأنك إن فقدتها، فلا أمل في أن تظفر بمثلها، وعندئذ يتلبسك الحزن.

يُذكّر الكندي الإنسان بأن كل ما يمتلكه وما في حوزته إنما هو لله عز وجل، ويمكن له في أي لحظة شاء أن يسترده منه، وبالتالي فلا يليق بنا أن نحزن ولا نأسى لهذا الاسترداد، بل يجب أن نفرح لكون أنه تعالى استرجع منا الأخسَّ والأقل قسمة وشأناً المتمثل في ركام الدنيا وحطامها الزائل الخارج عنا، ولم يسترد منا ما ننعم به من خيرات نفسانية وهو ما يوجب الفرح لا الحزن. وقد قيل لسقراط: ما بالك لا تحزن؟ فقال: لأني لا أقتني ما إذا فقدته حزنت عليه.

ولا يفوت الكندي، هنا، أن يُذكِّر الإنسان أيضاً بأن الحماية من حدوث الأشياء المحزنة تتم عن طريق العيش وفق تمام طبيعته، وطلب الحسن من القبح، والإيمان بوجود الخير عند حصول الشر، وطرد الخوف والتسلح بالرجاء، والاعتقاد بإمكانية ظهور الحياة من تجربة الموت. فمثلاً نحن نعتقد أنه لا شيء أسوأ من الموت، لكن الموت ليس شراً، وإنما الشر هو الخوف من الموت، لأن الموت تمام لطبيعتنا، وبدون الموت لن يوجد إنسان أبداً، لأنه إن لم يمت لم يكن إنساناً، ولخرج عن طبيعته الإنسانية.

عبد الرزاق دحنون
عبد الرزاق دحنون
كاتب سوري.. بدأ الكتابة عام 1980 في مجلة الهدف التي أسسها غسان كنفاني.