طلاق على الطريقة الإسرائيلية (1 - 2)

طلاق على الطريقة الإسرائيلية (1 - 2)

26 اغسطس 2019
+ الخط -
هذا فيلم جرئ في تعريته للواقع الاجتماعي الإسرائيلي، ونقده لسيطرة الحاخامات والفكر المتشدد على كثير من أفراد المجتمع الإسرائيلي، لكن أهم ما فيه أنه لا يقول ذلك بشكل مباشر، بل يرويه من خلال قصة بطلته فيفيان إمسالم الإسرائيلية من أصل مغربي، التي تدرك أن عشرتها مع زوجها صارت مستحيلة، ولم يعد فيها مجال للصبر والرضا بالقليل، فتلجأ إلى ما يشبه المحكمة الشرعية لدينا قديماً، وهي محكمة مكونة من ثلاثة حاخامات، من حقها أن تمنح الزوجات ما يعرف بالـ "جيت" أو إجازة الطلاق، لأن الشريعة اليهودية لا تعترف سوى بشكل وحيد لحصول المرأة على الطلاق، وهو أن يوافق الزوج على ذلك ويمنح زوجته "الجيت" بعد طقوس شديدة الغرابة.

لكن زوج فيفيان وهو أيضاً من أصل مغربي، يرفض منحها إذن الطلاق، ومع ذلك فهو يحضر كل جلسات المحكمة، لأن القانون يلزمه بحضورها، ولأن لديه أملاً بأن يقنع الحاخامات زوجته بالتراجع عن فكرة الطلاق، وحتى حين يقرر الامتناع عن حضور الجلسات، يصدر الحاخامات أمرا بالقبض عليه، وحين يتعرض لتجربة السجن، يتعلم كيف يعاود حضور الجلسات، ومع ذلك يستمر في عرقلة جهود الحاخامات لتسريع عملية الطلاق، فتستمر محاولتها في الحصول على الطلاق أكثر من خمس سنوات، تدور خلالها أحداث الفيلم.

مخرجا الفيلم الأخوان شلومي الكابيتز ورونيت الكابيتز، والأخيرة هي بطلة الفيلم أيضا وواحدة من أهم ممثلات السينما الإسرائيلية، قررا خوض تحدٍ فني بأن تدور أحداث الفيلم كلها في قاعة المحكمة وغرفة الإنتظار الملحقة بها، دون أن تخرج الكاميرا إلى الخارج ولو حتى في مشاهد فلاش باك، وهو ما كان يمكن أن يجعل الفيلم ثقيلاً على المشاهد، لذلك أتصور أن صناع الفيلم وضعوا في بالهم بالتحديد تجربة الفيلم الأمريكي الجميل (12 رجلا غاضبا) للمخرج العظيم سيدني لوميت، والذي تدور أحداثه بالكامل داخل قاعة يجتمع فيها المحلفون في محكمة أمريكية، حيث تمكنت قوة الأحداث وإجادة الممثلين في الإمساك بتفاصيل شخصياتهم، في تعويض المشاهد عن الجرعة البصرية التي فقدها ببقاء الكاميرا طيلة وقت الفيلم داخل ديكور داخلي، وهو ما حدث في فيلم "جيت" أيضا، حيث تم رسم الشخصيات ببراعة، ساعدت كل ممثل على أن يمسك بشخصيته ويتفوق في أدائها في لحظات الحديث والصمت أيضاً.


ربما كان أبرز مثل على ذلك شخصية الزوج الذي يرفض الطلاق، والذي ظهر صامتا أغلب أحداث الفيلم، وهو يتابع محاولات زوجته وأقاربها للإفلات من سجن زواجه، مكتفياً بتصويب نظرات كراهية فائقة لزوجته، تتحول أحيانا إلى نظرات دهشة من إصرارها على تركه، وتظهر للحظات ملامح حنين إليها سرعان ما يخفيها بالعودة إلى تصويب نظرات الكراهية والغضب، لترد عليه زوجته بنظرات مماثلة مركبة المشاعر، ولتمتزج تلك اللقطات التي تم تقطيعها ببراعة، مع جو المعركة الدائرة بين محامي الزوجة ومحامي الزوج الذي هو في نفس الوقت أخو الزوج الأكبر واليهودي المتشدد في تدينه، والذي يحاول وضع نفسه في درجة دينية لم يكتسبها بعد، ومع ذلك فهو لا يتورع عن استخدام كافة الأسلحة ضد محامي الزوجة، حتى لو وصل الأمر إلى اتهام الزوجة بأنها على علاقة جنسية مع محاميها، وهذا ما يدفعها إلى الإصرار على طلب الطلاق من أخيه.

بعد فترة بسيطة من البدء في مشاهدة (جيت: محاكمة فيفيان إمسالم)، ربما تتذكر مثل ما تذكرت فيلمين سيحضران إلى ذاكرتك، أولهما الفيلم المصري الجميل (أريد حلا) الذي أخرجه وكتب له السيناريو الفنان الكبير سعيد مرزوق عن قصة واقعية كتبتها الصحفية حسن شاه ومن بطولة سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة والنجم رشدي أباظة وحوار سعد الدين وهبة وإنتاج صلاح ذو الفقار، والذي دارت كثير من مشاهده في قاعات محكمة الأحوال الشخصية، التي رأينا فيها كيف تحاول الزوجة بإستماتة أن تحصل على الطلاق من زوجها المتعنت، الذي يشك في كونها على علاقة عاطفية تجعلها ترغب الطلاق منه، وخلال رحلتها المريرة في أروقة المحكمة، والتي استمرت أربع سنوات كاملة، يستعرض الفيلم ببراعة قصصا مختلفة، تظهر تلاعب الرجال بأحكام القانون المستمدة من مواد الشريعة الإسلامية من أجل قهر النساء والسيطرة عليهن، وينتهي بفشل البطلة في الحصول على الطلاق، وأنها لا تجد حلا سوى أن تبدأ رحلة رفع دعوى قضائية جديدة لطلب الطلاق، ليثبت الكادر الأخير في الفيلم على فاتن حمامة وهي تبكي بحرقة وقد كتب على الشاشة عبارة (وبعد عشر سنوات لا زالت المحاكم تنظر هذه القضية حتى الآن)، وقد حقق الفيلم نجاحا كبيرا بعد عرضه، لدرجة أنه ساهم في دفع حركة تغيير بعض مواد قوانين الأحوال الشخصية في مصر.

الفيلم الثاني الذي سيحضر إلى ذاكرتك، هو فيلم (انفصال نادر عن سيمين) للمخرج الإيراني أصغر فرهادي، والذي حصل في عام 2012 عن جدارة على جائزة أوسكار أحسن فيلم أجنبي وجائزة الجولدن جلوب لأفضل فيلم أجنبي وقبلها على جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين الدولي وحصل طاقم تمثيله على جائزة الدب الفضي لأحسن ممثلين، وهو أيضا تدور أحداثه في محكمة شرعية، حيث نرى الزوجة وهي تستميت للحصول على الطلاق من زوجها، لكي تتمكن من السفر إلى الخارج، بينما يرفض الزوج الطلاق من زوجته التي يحبها، لحرصه على البقاء في إيران لمراعاة والده المريض بالزهايمر.


كنت أتخيل أن فيلم (انفصال) الإيراني كان ملهماً لصناع فيلم (جيت) الإسرائيلي، وأن فكرة صنعه ربما جاءت بعد مشاهدة الفيلم الإيراني الجميل، إلا أني حين قرأت بعدها عن تجربة الأخوين الذين أخرجا فيلم (جيت)، قرأت أنه الجزء الثالث من ثلاثية سينمائية ظهر جزءها الأول عام 2004 بعنوان (لكي تتخذ زوجة)، وظهر جزءها الثاني في عام 2008 بعنوان (سبعة أيام)، لم أعثر على الفيلم الثاني، لكني وجدت الفيلم الأول والذي يظهر بداية تأزم العلاقة الزوجية بين فيفيان إمسالم وزوجها إليشا، والذي لعب دوره في ذلك الفيلم كما في فيلم (جيت) بالطبع، الممثل الفرنسي من أصل أرمني سيمون أبكاريان، والذي يبدو أن الاستعانة به تمت لوجود شريك إنتاج فرنسي في الأفلام الثلاثة، بالإضافة إلى كونه وجهاً معروفاً في العديد من الأفلام العالمية، من بينها فيلم (كازينو رويال) أحد أفلام سلسلة جيمس بوند الشهيرة، وقد ساعدته نشأته في دول وثقافات كثيرة على لعب شخصيات تنتمي إلى جنسيات مختلفة، حتى أنه لعب في العديد من الأفلام دور العربي، لأن والده لبناني الجنسية، وكان قد عاش معه فترة في لبنان، ثم غادرها إلى فرنسا مع والدته بعد اندلاع الحرب الأهلية، ورلما لذلك جاء حواره في فيلم (جيت) بالذات يغلب عليه النطق بالفرنسية، وقليل من العامية المغربية وقليل من العبرية، لأن الشخصية التي يلعبها من أصل مغربي، وحديثه بالفرنسية أمر متوقع، بل إن الممثلة التي لعبت دور والدته العجوز في الفيلم الأول، لم تكن تتحدث سوى العامية المغربية، وهو ما تم اختياره لتأكيد العزلة التي تعيش فيها في بيت ابنها، ووجود قدر كبير من التباعد والجفاء بينها وبين زوجة ابنها.

في الجزء الأول من الثلاثية التي تروي رحلة فيفيان مع الطلاق، يبدأ الفيلم بمشهد نرى فيه فيفيان محاطة بإخوتها اليهود المغاربة الذين يتحدثون معها بخليط من العبرية والعامية المغربية، وهم يهاجمونها بشدة ويتهمونها بالجنون، لأنها تريد أن تنفصل عن زوجها إليشا الذي يصفونه بالتدين والخوف من الله والطيبة، ويثنون عليه لأنه يوفر لها حياة كريمة، ويذكرونها بالمعاناة التي يمكن أن تدمر حياتها إذا طلبت الطلاق، هذا إذا استطاعت أصلا الحصول عليه، وينتهي المشهد باستسلامها لتلك الضغوط، لنرى كيف تعيش حياتها الزوجية المتأزمة في شقتها الصغيرة بحيفا، خلال ثلاثة أيام تسبق يوم السبت الذي يرفض زوجها فيه كأي يهودي متدين الخروج من المنزل، ويمتنع عن الذهاب للفسحة معها ومع أولادها الأربعة الذين تعاني من أجل تربيتهم، لدرجة أنها تساعد زوجها بتحويل قسم من الشقة الصغيرة إلى محل كوافير تقوم فيه بتزيين جاراتها، ويبدو الزوج في الفيلم رجلا تقليديا جدا ليس فيه ما يعيبه ولا ما يميزه.

نكتشف مع تطور أحداث الفيلم الذي تدور أحداثه في عام 1979، أن حبيب فيفيان السابق يظهر فجأة بعد عودته إلى اسرائيل، ويطلب أن يلتقي بها لأنه مشتاق إليها، وتعيش صراعا مع نفسها الأمارة بالعشق ومع رغبتها الملحة في رؤيته، ولا يبدو أنها مشغولة بإخلاصها لزوجها الذي لا تحبه، بقدر ما هي خائفة من تداعيات لقائها به وافتضاح أمرها لزوجها وأسرتها، لكنها وبرغم كل المحاذير تضعف في النهاية وتلتقي به، دون أن يحدث بينهما اتصال جسدي، ويودعها حبيبها بعد لقاء رومانسي عاصف، لتعود ثانية إلى حياتها الزائفة التي تتظاهر فيها بأنها زوجة محبة لزوجها، لأنها تعرف أن الطلاق من زوجها الذي يبدو مثاليا للجميع، ليس سوى حلم يستحيل الحصول عليه، في المجتمع الإسرائيلي المتدين.

لم أشاهد الفيلم الثاني الذي يحمل عنوان (سبعة أيام) لكني قرأت أنه يقدم ما يحدث لنفس الأسرة بعد وفاة إحدى إخوة فيفيان، حيث تُجبر الأسرة بأكملها على البقاء في المنزل طبقا لتقليد "الشيفا" اليهودي، الذي يجبر الأسرة على البقاء سبعة أيام كاملة في المنزل، إذا توفى أحد أفراد العائلة، وبرغم أن الفيلم يروي للمشاهدين، كيف حدث انفصال غير رسمي بين الزوجين، ابتعد فيه الزوج عن أي علاقة مباشرة مع زوجته، وأصبح يعيش في مكان آخر خارج البيت، إلا أن الزوجة لا زالت واقعة تحت قبضة الزوج الخانقة ماديا ومعنويا، ومن هنا يأتي الفيلم الثالث (جيت: محاكمة فيفيان إمسالم)، ليروي لنا كيف لا زالت البطلة بعد عشرين سنة تحلم بالطلاق، وكيف قررت هذه المرة ألا يظل سعيها للطلاق مقصورا على نطاق الأسرة، بل أن تذهب إلى جهة الإختصاص لتحصل على الطلاق بشكل رسمي، وتناضل من أجل ذلك مهما تكلف الأمر، مع أنها تعلم أن معركتها لن تكون سهلة، خاصة أن زوجها يحبها حب تملك، ولا يتصور أن تكون لرجل من بعده، لدرجة أنه بعد مرور أربع سنوات كاملة من العذاب والشحططة في المحاكم، وحين يوافق أخيرا على أن يطلقها بضغوط من الأسرة، ويقف أمام هيئة الحاخامات ليمليه كبيرها النص الديني الذي "يتعهد فيه بأنه يطلقها، وأنها بعد ذلك الطلاق تصبح متاحة لأي رجل يرغب فيها"، يبدو كأنه اكتشف شيئا لم يكن يخطر على باله، وهو أن هذه المرأة التي أحبها يمكن أن يلمسها أحد غيره، ولذلك يرفض الطلاق في آخر لحظة، فينفجر فيه أفراد هيئة الحاخامات التي تحولت معاناة فيفيان معه، إلى معاناة لهم أيضاً.

نكمل غدا بإذن الله
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.