المنتفعون من التاريخ

المنتفعون من التاريخ

22 اغسطس 2019
+ الخط -
التاريخ هو الشاهد الصامت على الأفعال، والأديب هو الذي يُنطق ذلك الصامت، مهما كان نوع الأدب الذى يحذق في نسج كلماته سواء كان شعراً أو رواية أو قصة وغيرها من ألوانه المتعددة.

فالكاتب الحق هو الذي يفتش في دهاليز التاريخ ليبعث مختصر الفائدة التي تعود علينا منه أو يربط بين ما مضى وما نحن فيه بخيط يوصلنا لحقيقة المسببات التي دفعتنا نتيحة ما أوقعتنا الأحداث بالماضي، مجسداً ما حصل في صورة لا تفارق خيالنا ضارباً إياه في بيت من الشعر أو قصة من الأقاصيص لعل وعسى ألا نكرره، لأن ببساطة كل مُكرر يُعاد يصيبك بالملل وقد تلاحظ ذلك الملل على كثير منا بعدما طبع نفسه على ملامحنا وأيضاً قد تراه واضحاً فى كلام أحدهم ساخراً من واقعه "قل للزمان ارجع يا زمان"، وغيرها من الشواهد الممتلئة بالحنين للماضي، تلك النزعة التي تعبئنا بالأشواق لتأخذنا دوماً لما توفاه الزمن.


نفسها المشاكل من السنين الماضية هي التي نعانيها حالياً، لذا اندثرت مهنة المؤرخ من مبدأ "الأيام كلها شبه بعضها" فغلاء الأسعار الذى كان يعانيه مثلاً أسلافنا في العشرينيات وما بعدها هو ذاته الذى يحنق عليه أحفادهم في الوقت الحالي، وحنين أسلافنا للزمان الذى عاش فيه أسلافهم هو نفس الحنين الذى يمسنا للماضي عندما تغلبنا الهموم، فالفكرة واحدة مهما اختلفت في مظهرها.

وقد تلامس الملل من ذلك التكرار في مواضع أخرى فتلاقيه في شقاء المهمشين والشغيلة يصدمك في قصة ابن الباشا الذي لعب بعواطف بنت البلد أو في بنت البلد التي حاولت أن تلاعب العجوز الذي لفعها بنقوده أو في عنجهية الأرستقراطيين، ستراه واضحاً فى وجود النفاق هذه الصفة التي لازمت كل العصور، كلها سيناريوهات أغرقت الأفلام وتشبعت بها أنفسنا حتى تجشأناها بالواقع.

ستراه في تغول الحاكم الذي تحاوطه طبقة المتلونين الذين يداهنون السلطان، ستراه في نفس ذلك الحاكم الذي يخشى على مؤخرته يصفعها العراء لو خالف الحكومات التابع لها.

ومنها سأضع يدك على صفحة في التاريخ بالعشرينيات تم طبع الجنيه المصري ولكن الصورة التي رُسمت عليه لم تكن مثلاً للسلطان العثماني الذي كانت مصر ولاية تابعة له، فقد كانت الدولة العثمانية تلفظ أنفاسها الأخيرة وهى تحت يد سلطانها محمد السادس الذى أضعفته الشيخوخة التي نخرت في هيكل الدولة العثمانية، فبعدما كانت الدولة في عنفوانها تحتل بقاع عديدة في العالم أصبح قلبها محتلاً يعبث فيه الإنكليز..

ولم يكن أيضاً صورة الشخص المرسوم على الجنيه المصري ملك مصر حسين كامل الذي اغتصب ملك مصر بعدما أصدر الاحتلال فرماناً بتولية حسين كامل على مصر وعزل الملك عباس بعدما ساند تركيا ودعم الألمان. وبعدها قام الملك بالتذلل للإنكليز ابتداءً من المندوب السامي، الوالي الحقيقي على مصر حتى أصغر الموظفين، وتنازل عن ممارساته الملكية، وكل ذلك لكي يسمح له الاحتلال بأن يتولى العرش من بعده ابنه الأمير كمال..

والغريب في الأمر أن الصورة لم تكن أيضاً لابنه الأمير كمال ولكنها كانت صورة لشخص أسمر يتلفع بالعمامة حول رأسه، فيه ملامح جنوبية من صعيد مصر. فمن يكون؟!

يتبع..

دلالات

A03D0CDD-E864-4548-B17D-EBCC894B1E58
محمود أبو عبية

طبيب وشاعر وكاتب قصص قصيرة ومقالات متنوعة فى الفلسفة والتاريخ والأدب الساخر.. ابن الحارة المصرية وعابر سبيل فى دنيا الله.