في الوداع الأخير

في الوداع الأخير

19 اغسطس 2019
+ الخط -
مع صباحها الباكر ودّعتنا بإشارتها الماسية المعروفة. كانت إشارتها تدلّ على أنّها في طريق العودة إلى حضن بلدها، سيكون نهاية الحب الذي أينع واخضرَّ، وها هو يضوي يابساً متعفّناً من مغادرة الحبيبة التي ودّعتنا إلى حيث موطنها، تاركةً وراءَها أحلامها وصورها الجميلة، وتحولت تلك الصور الرائعة إلى مجرد لقطة حوارية لم تكتمل!

حوارية، سقطت من تاريخ الزمن الذي يسبق الجواد الأصيل، بل تعدّاه، وها هو يرحل مودّعاً تاركاً عناوين كثيرة طغت بمحتواها على علاقة استمرت، وإن كانت قصيرة، إلا أنها أينعت ثماراً ناضجة.

علاقة، فيها الكثير من العفوية والروح المرحة، شابها عناوين مبهرة لم تكن تعرف في يوم ما سوى الصدق طريقاً ومشروعاً يؤدي إلى نهاية مفرحة، ولكنه ظلّ مشروطاً.

تلك العناوين، كانت هي آخر ما تلمّسه منها وبأناقتها، وإحساسها الذي ترك معه آهات، ونماذج أخرى لأمثال هذه العاشقة التي ودّعته أخيراً، وبدون استئذان، بعد أن ملأت عليه دنياه بأدبها وتواضعها الجمّ.

كان سفرها المفاجئ إلى حيث وطنها، فيه الكثير من الشوق والحنين، وإن كان يعلم في سريرة ذاته، أنَّ قلبها وبدقاته المتسارعة، وكلماتها الموحية إلى نداءات سماوية، على أنها لازمته لفترة، وكان هو من تبحث عنه، بين الركام!


وبعد أن التقت حبيبها تساءَلت كثيراً عن ماهيته، وفوجئت بأنه ما زال مرتبطاً بزوجة وأولاد، وإن اختارها في يوم كان الاختيار يختلف في أسلوبه، وفي طريقة حديثه معها، وتحولت العلاقة في ما بينهما إلى مجرد علاقة عاطفية باهته، ونادراً ما كانت أمثال هذه العلاقات وجدانية وصادقة، وفيها نبرات حب ما كان ليترجم إلى واقع، وتتويجها سيكون محكوماً بالزواج.
وفي هذا المساء، وقبل أن تغادر برجها العاجي هناك، تناهت إلى أسماعه أخبارها، وها هو اليوم أكثر ما يُشجع على هذا الخيار.

خيار فيه انفتاح وتفاهم وانضباط، وتجاوز للماضي بكل صوره المؤسية! وغيابها عنه، بعد أن سجل اعترافاته بأناقتها وذوقها ومدى جاذبيتها، وأنوثتها الطاغية التي هيمنت على كيانه، وعكست مجمل الأمور التي كانت تشغل ذهنه، وتؤلّب المواجع في قلبه، وتفتحت المسامّ معلنةً، وبتحدٍ قاسٍ، قناعته بها والزواج هو الحل الأسلم لحسم هذه العلاقة الوجدانية النظيفة التي يجدُ فيها الاعتراف على أنها صوت من لا صوت يعلوه، ورؤيته لهذه الإنسانة الهادئة بطبعها، الرقيقة في ألفاظها، التي لا تزال تنهل من ماء الفرات، وتغتسل منه، في صيف مدينة جادت بالعطاء، ولتغترف من الماء بكلتا يديها لتقدمه إلى حبيبها في يوم تعارفهم، في يوم اللقاء هناك..

ولم تكن في موقف تحسد عليه أبداً، فقد تخلّت عن كل احتمالاتها، وودّعت المدينة الغريبة التي عاشت فيها غربتها، برغم جمالها، ودقّة معالمها، ناهيك عن استقبالها للزوار، ومن أنحاء العالم، والتمتّع بها، والتحرّك في زواياها وفي أسواقها. في شوارعها ومقاهيها ومطاعمها، وأبنيتها الشاهقة، وأبراجها العالية الضخمة، وفنادقها الفارهة.

في هذا المكان قضت أيامها الطويلة، إلّا أن عشق "الرّقة" المدينة التي احتضنتها يوماً، وعاشت فيها أيام الطفولة والصبا، ظلّ محفوراً في قلبها الجريح، وفي وجدانها، وهي التي درست في معاهدها وجامعاتها، وحصلت على أعلى الدرجات العلمية وتفوقت. ولكنها، في "رقّتها" الحبيبة وبرغم المأساة التي عانتها، والتحوّل الكبير الذي شهدته، في أيامها الأخيرة، تركت بهاء المدينة الكبيرة الغريبة وقرّرت الرحيل حيث مسقط رأسها.

وظلّ حنينها يدغدغ مشاعرها في منامها، في صحوتها وفي خلوتها، وفي جلساتها وإطلالتها من أبراج المدينة التي حطّت رحالها فيها، وشوقها إلى الأماكن التي سجلت فيها ذكريات الطفولة وأيام الصبا، وها هي تثير في قلبه مواجع الغربة التي يعاني، ولا سيما أنه عايشها، وأخيراً همّت بالرحيل، والشوق يطاردها ويذكرها بأسواق مدينتها، ولياليها المقْمرة، وشوارعها الموحلة، وجسرها القديم، وشعبها الطيّب البسيط. والشوق إلى صديقاتها، وأبواب مدرستها، وتراب مدينتها الذي يظفّر وجنتيها، ويخدشهما.

وفي رحيلها، بعد انقضاء أشهر على فترة الإقامة، وانقطاع الشوق، والانبهار الذي شهدته خلال زيارتها، تقول وبكل عفوية: إنّ مدينة الرقة، فيها ترعرت، وفيها سأقضي بقية عمري، ولا يمكن أن أتخلى عنها، أو أبيعها بكنوز الدنيا كلها. فأنا سعيدة بها، وأعشق كل ما فيها، كعشقي لمحبوبي، وان تركته هو الآخر يُعاني مرارة الحرمان والشوق والغربة، إلا أنّه وعدني بأنه سيعيش في مدينتنا التي تترع رقّةً وعذوبةً، ويكفي أننا نُحبها وتُحبنا، ونعشق كل ما فيها من أصالة وطيبة أهل.

كانت الساعات الأخيرة تمضي مسرعة في وداع صديقاتها اللاتي عِشنَ مع بعض أيام وليالٍ في حسرة وألم، من جرّاء ما حدث لمدينتها واستذكارها واقعاً أليماً لم يخطر على بال أن يكون على هذه الشاكلة يوماً، وحولت أفراحها إلى مزيد من صور الحزن والكآبة والوجع والألم والمقت، والاشتياق إلى من أحبّتهم وعرفتهم عن قرب، وسبق أن عاشرتهم، وكانوا بالنسبة لها السند والأهل والعشيرة.

أهلها الذين قتلوا في الحرب الضروس التي لم يخلص منها أحد.. وها هي اليوم بدت عليها علامات الوداع الذي سبق الهزيع الأخير من ليل طويل، وهو يتحول إلى كتلة رمادية حزينة مؤسية. في تلك الليلة، كان وداعها الأخير الذي لم تجفّ دموعه، فأصرّت على العودة إلى حيث مدينتها الذبيحة متحديةً كل الصعاب والجراح المثخنة التي عانتها، ووقفت حجرة عثرة في طريقة عودتها من جديد!

واتسمت الصورة الحية مع الواقع الأليم الذي غيّر الكثير من وجه المدينة وصورتها، كما غير حال أهلها ومعارفها ومن بقي من أصدقائها، بعد أن غادر أغلب سكانها مدينتهم ولجأوا إلى بلاد قصية للحفاظ أقلها، على أرواحهم المتعبة من هول ما حدث لهم من قتل وتشريد، وتدمير ونزوح قسري وتخريب كامل لبنى مدينتهم التحتية، إلا من رحم ربي. وعلى الرغم من ذلك كلّه، تشبّث الكثير من أهلها في العيش فيها متحدين الدمار والقتل والجوع والذل، ونرجو أن تعيش أيامها الأخيرة في ظلّ مدينتها التي أحبتها ونهبها الغزاة، وأحالوها وللأسف، كتلة من الحجارة، كما أنهم قضوا على كل ما هو جميل ومؤنس في عيون أهلها الطيبين المسالمين، وصارت تشكل حجر الزاوية في وداع حتمي تمنت أن يُبحر أكثر في قلوب من ظلّوا مستسلمين لواقع مرير بقي مجهولاً!

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.