صناعة النكد

صناعة النكد

16 اغسطس 2019
+ الخط -
نعم أعزائي القراء، هذا العنوان حقيقي بالفعل، وهو الذي سأدور في فلكه في هذه التدوينة. وأجيبكم ثانيةً، نعم هذه صناعة موجودة وحقيقية، وهي صناعة قائمةٌ بذاتها، لها روادها وأربابها، وكبار المنتجين فيها، وهي حرفةٌ لدى البعض بلغوا فيها حد الإتقان والإبداع، حتى أصبحت عندهم صناعة ضخمة يتفننون بها وبأساليبها، وإلى جانب الانتشار أصبحت متجذرة في مجتمعاتنا ضاربة في التأثير بها، تسطر في عمق تاريخنا الواعي "قلقًا" و"مقتًا" و"سآمة" وأشياء أخرى كثيرة..

وفي مقابل أرباب الصنعة وأساطين المهنة، نجد المستهلكين في المقابل، مجموعة مضطرة مجبرة على الاستهلاك، تتلقى ما يُنتج أولئك وهي مغلوبة على أمرها، مقهورة لا تنطق ببنت شفة، تراهم أفرادًا أو مجموعات وهم مكبلون بسطوة أو مكانة، أو قرابة وصلة، أو بين هذا وذاك....
ولكن!! من هم هؤلاء الصناع؟
وماذا يصنعون وينتجون؟
وما هي أدواتهم في صناعة أضحت بهذا الحجم والتأثير؟
وما هي الأوقات التي يبدع فيها أرباب الصنعة؟

أسئلةٌ كثيرةٌ لن أحاول الإجابة عنها جميعها بالضرورة، ولكن الحقيقة التي لا انفكاك عنها، أن هذه الصنعة، حالةٌ متجذرة في مجتمعاتنا العربية، ولن أسهب في إيراد المسببات المباشرة أو غير المباشرة، فمن انسداد أفق السياسة والمشاركة في الحكم بشكل فاعل، إلى الانشغال بهموم المعيشة وتأمين الحياة الكريمة، وصولًا إلى حالة التشظي التي نشهدها، والأزمة الاقتصادية التي تجعل الناس تلهث خلف لقمة العيش بشكلٍ مستمر، بالإضافة إلى هذا البحر من الدماء الذي نعاينه في محيطنا، وتطفو عليه فضاءاتنا، تدفع جميعها إلى حالة الهستيريا النفسية التي تتصاعد في كل حين، ولا يمكن عزل العوامل النفسية والذاتية، وما يتصل بالسلطوية والتحكم الشخصي عن مثل هذه الممارسات.
وعلى الرغم من هذا كله، واختلاف الأسباب والدوافع، تظلّ ظاهرة "صناعة النكد" حالة خطيرة جدًا يجب الوقوف عندها وقفةً جادة حازمة، فهي تفتك بعشرات الأسر– ومئات المؤسسات- وتحول حياة أفرادهم من علاقة الأسرة أو المؤسسة المتفاعلة المتجانسة إلى مجموعة من العلاقات البينيّة المجردة، القائمة على ضوابط عامة، وتحكمها ردة الفعل، فيما يتم قتل الحب والمودة والتقارب رويدًا رويدًا، وتصبح هذه العائلة أو المؤسسة هشة، تنخرها الفردية والذاتية، وتغيب عنها القيم الجماعية القادرة على النهوض والتعاون والتكاتف والتآلف... أما عن العلاج والحلّ فهما بحاجة قلم متخصص رصين، يقوّم ويعالج، وعلّي أن أساهم في تبديد بعض العتمة التي تكتنفها.


أما عن الصناع فهم كل راع ومتولٍ ومسؤول، أكان أبًا أو أخًا أو أمًا أو زوجًا، أو مديرًا في شركة أو مسؤولًا في جمعية أو في عمل تطوعي، أو صاحب دكان وبقالة، أو صاحب مهنة ولديه عمال و"شغيلة"، أي هو كلُّ من له سلطة وشأن وتحكم بمن دونه أو يقعون ضمن حدود مسؤوليته، وعلى ذلك يمكن القياس صعودًا ونزولًا بحسب قدر المسؤولية أو أفراد الأسر وطبيعة المجتمع، ولإيضاح أدوات وصور صناعة النكد نورد بعض الأمثلة التي تبين أدوات الصناع وحججهم لإخراج هذا المنتج الباذخ:
نبدأ بأشهرها وأكثرها إيلامًا وأكثرها انتشارًا، وهي حالة النكد في الأفراح والمناسبات، بحجة ومن دونها، فيشتعل الراعي أو الوالد أو الأخ أو الزوج، ويستشيط غضبًا عند أول خطأ أو نسيان أو سهوة، ولو كان خطأً هيناً لا يذكر، فيتحول عندها إلى خطيئة لا تُغتفر، وتنطلق موجة عنيفة من الغضب، تدمر كل ما حوله، متناسيًا ما هي المناسبة، وكيف يجب التعامل معها، ومما يزيد فظاعة الأمر عندما يكون الغاضب شتامًا، فيزيد الجرح إيلامًا، ويحول الفرح المنتظر إلى حزنٍ وكمد، فتضيع هذه اللحظة المنتظرة منذ أيام بل وسنوات، وتتحول الأسرة إلى الوجوم في يوم تكون كانت فيه في أمسّ الحاجة إلى الفرح وإظهار البهجة، فهل يعقل أن تبدد حالة مزاجية أفراحنا اليتيمة؟
والصانع الثاني هو المدير أو المسؤول أو القائد، فبعد كل نشاط وإنجاز، يتغافل عن كل تطور وتقدم نوعيّ، ولا يلتفت إلا إلى المثالب والأخطاء، بحجة التقويم والتطوير، ووضع الأمور في نصابها، فيضيع الإنجاز وتسلط الضوء على الهفوات ليس إلا، وتبدأ هستيريا إلقاء المسؤوليات، وسيل الاتهامات، ويصبح المنجزون في حيرة من أمرهم، بعد تعبٍ وكد، وانتظار قطف الإنجاز.. ولا أقول إن التقويم ليس مهمًا، ولكنه في مقام ثانٍ، بعد تقدير الجهود وإعطاء المنجزين حقهم وتقديرهم، وهي حالة مشهودة تدفع بالكثيرين إلى أتون التقوقع والعمل الرتيب، ويبتعدون عن الإبداع والتألق، ويرتضون بعدها أن يكونوا أصفارًا غير منتجة، والأخطر من ذلك أن يختاروا الانسحاب من المنظمة بأكملها ابتغاء تقدير ولو كان عابرًا.

والصانع الثالث هو كلُّ واحدٍ منّا مع أطفاله، عندما نضخم الخطأ الصغير ونحشر كل ما نعانيه من ضغوط حياتية وعقد، لينفجر في هذا الطفل البريء، وكم جُرحت نفوس وتحطمت آمال خلف مثل هذه النوبات غير المبررة، وهنا يتحول النكد إلى حالة مرضية تؤثر على الطفل وعلى تكوينه النفسي، وهو تأثير سيظل ملازمًا له إلى مراحل عمرية لاحقة.
ختامًا وأمام هذا الانزياح المتنامي نحو السلبية، كم علينا أن نتغافل في حياتنا اليومية، أن نتخلق بالحلم والأناة، فكثيرٌ من النكد يمكن تجاوزه بصمت بضع لحيظات ليس إلا، كم ستكون منازلنا إن جعلنا الأعياد والمناسبات مواسم حقيقية للفرح والسرور، أن تكون عوائلنا هي همنا الأول، وأن يظل فرحهم نصب أعيننا، فعندما نرسم البسمة على وجوههم، سيكون للفرح في قلوبنا مكان وحيز، وكيف ستتحول مؤسساتنا إن أعلينا من لغة التقدير، وأثبنا المنجزين المتميزين، كيف سنستفيد من طاقات كامنة، ونطلق مبادرات رائعة.. ولنا في كل هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، في كلامه وخطابه وبعده عن الغضب والغلو في كل شيء وموقف، فهو من قبَّل الأطفال ومسح على رؤوس الغلمان، وسمى صحابته أسماء عظيمة، فهذا الأمين وذلك سيف الله المسلول وغيرها، لنكون نبويين في الغضب، ربانيين عند اتخاذ القرار، رحماء بيننا، فضلاء في تعاملاتنا...

31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".