المحافظ الصامد في وجه إدلب

المحافظ الصامد في وجه إدلب

13 اغسطس 2019
+ الخط -
في جلسة الإمتاع والمؤانسة التي انعقدت في منزلي بحي (Sefaköy) الإسطنبولي، فتح أبو الجود سيرة محافظ إدلب الذي استمر في منصبه أكثر مما استمر حافظ الأسد في حكم سورية المنكوبة، وسرد الحاضرون طرائف كثيرة عن ذلك المحافظ الأزلي..

غير أن ضيفنا الحموي "أبو ماهر" أبدى إعجاباً خاصّاً بالطرفة التي رواها أبو الجود، وملخّصُها أن رجلاً فكاهياً اسمه "أبو صبحي" كان مراقباً في قاعة امتحان لطلاب الثانوية العامة الفرع الأدبي، ورأى طالباً حائراً أمام شرح قصيدة توفيق زَيَّاد (هنا على صدوركم باقون كالجدار)، فنصح الطالب أن يكتب في شرح القصيدة على ورقة الامتحان ما معناه أن هذا الوصف ينطبق على محافظ إدلب!

وتوجه أبو ماهر إلينا نحن أبناء محافظة إدلب قائلاً: أنا فهمتْ من نكتة "أبو صبحي" أنُّه المحافظ كانْ جاثمْ عَ صدوركم متل الجدار. هالشي صحيح؟

ضحك أبو الجود المتخصص بحكايات المحافظ، وقال له: لا هو متل الجدار ولا حتى متل السّكْرْ. إنته بتعرف السّكر؟

قال أبو ماهر: بتقصد السور تبع الكروم؟

تدخل الأستاذ كمال قائلاً: نعم. في مناطقنا بيقولوا عنه السكر، لأنه بيسكّر (بيغلق) مداخل الكرم أو البستان حتى ما يدخلوا منها البشر الغرباء والحيوانات، وبالأخص الكلاب الداشرة، وفي بعض المناطق بيسموه "التصوينة" وفي لبنان بيسموه "السياج"، ومن سكتشات الأخوين الرحباني الشهيرة "الإسوارة" وفيها أغنية "وطا الدوار" اللي بتوصفْ فيه فيروز (عشاق تنين زغار) وبتقول: وخلف السياج اللي إلُه دايرْ- من شوك الحقالة - يبقوا يغنوا وشعرهم طايرْ - وحالتُن حالة..

قال أبو الجود: والسّكْرْ تبع الكرم كمان حالتُه حالة، بتلاقيه دائماً وسخ ومغبر وبين الحجار تبعه بتمرّ بعضْ الزواحف، وبالأخص الحرادين، وأحياناً بتنبت فيها نباتات خضرا متل الكَرْبَجْ. يعني بدي قول إنه محافظنا ما خرج يكون متل الجدار اللي حكى بحقه الشاعر، ولا حتى متل السكر تبع الكرم، والرَجُلْ ما كان إله أي شخصية أو هيبة، وإذا بتحب أنا هلق بحكي لك على يوم دخل عَ القهوة في البازار..

قال أبو جهاد: أبو الجود رجل غليظ، ولما بيحكي وبيلاقينا عم نسمعْ لُه بيصير أغلظ.. لك أخي احكي لنا على يوم دخل عَ القهوة في البازار من دون ما تسألنا.. مفكر راح نقلك ما منحب نسمع القصة؟

قال أبو الجود: أكيد لأ، بس حبيت أعمل لكم هاد.. أشو إسمه؟ أشو..

قال كمال: تشويق.

قال أبو الجود: تشويق. نعم. يا سيدي كانوا الشباب القاعدين في القهوة عم يلعبوا بالورق والدومينو وطاولة الزهر، وانتبهوا إلى إنه في شخص لابس طقم رسمي وكرافة داخل ع القهوة، فوقفوا بشكل تلقائي لأنهم ظنوه شخصية مهمة، وبعد شوي صاروا يقعدوا ويقولوا: ولي علينا، هادا المحافظ. افتكرناه حدا تاني!

قال كمال: أنا بدي إتشكر "أبو الجود" على هالمعلومات، والإضاءات اللي ألقاها على شخصية محافظ إدلب. وإذا بتسمحوا لي بدي إدخل في عالم السياسة وقول إن حافظ الأسد كان من طبيعته إنه ينقل المحافظين اللي بيستمروا في عملهم أربع خمس سنين باتجاهات مختلفة. البعض منهم كان ينهي عملهم بشكل نهائي، يعني هدول بيبعتهم لبيوتهم وبيطلب منهم يتفرغوا لحب الوطن.. وفي منهم محافظين بينقلهم إلى الوزارة. يعني لا تستغرب لما بيطلع تشكيل وزارة جديدة إنك تشوف اسم محافظ دمشق أو حلب أو الرقة أو القنيطرة صار وزير دولة أو وزير بحقيبة، وبين الحين والآخر كان يعمل تنقلات محافظين، فتطلع قائمة فيها نقل محافظ الرقة إلى ريف دمشق ومحافظ حمص بيصير محافظ القنيطرة وبيرمم أماكن اللي صاروا وزراء أو اللي تفرغوا لحب الوطن.. و..

قال أبو ماهر مقاطعاً: والله غريبة، يعني ولا مرة هاي التنقلات شملت محافظ إدلب؟

قال الأستاذ كمال: ولا مرة. لو كان نقلوه مرة كانت انتهت القصة، وما كان وصل للرقم القياسي في أطول فترة محافظ، وما كان اكتسب تسمية "أسوأ محافظ يمكن أن تمنى به محافظة غلبانة عبر العصور".

قال أبو الجود: في البداية، يعني بعد أربع أو خمس سنين من تعيينه عنا، كنا نسمع إنه في تنقلات محافظين فنركض لنسمع الخبر من الإذاعة والتلفزيون على أمل إنهم ينقلوه ونخلص من وجوده، وهاد الوضع استمر فترة طويلة، بعدين بطلنا نتابع أخبار تنقلات المحافظين، لأنه منعرف سلفاً إنه محافظنا باقي، البقاء لله.. ومرة من المرات أجا أبو صبحي ع القهوة وكنا نحن قاعدين، فحكى لنا شغلة لا يمكن تصديقها..

قال: بتعرفوا اليوم أيش صار؟ قلنا له: لا والله. قال: أنا اليوم قاعد عم اتفرج ع التلفزيون، وإذ طلع المذيع اللي حواجبه سميكة وقرا الخبر التالي: أصدر السيد الرئيس حافظ الأسد مرسوماً رئاسياً يتضمن تسمية محافظين لكافة المحافظات السورية عدا محافظة إدلب.


فتأمل، رعاك الله!
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...