أعلام الأدب (3): سومرست موم

أعلام الأدب (3): سومرست موم

13 اغسطس 2019
+ الخط -
تستحوذ اهتمامات الأديب الفكرية على لبّه، إلى حد أن يرى ما عداها من المشاغل باهتةً شاحبة، وقد يهمل أمورًا أو يتغافل عنها. آمن موم أن عمل المؤلف لا ينحصر في قول الصدق، بقدر ما يتوجب عليه أن يبالغ ويحوِّر، بل ويشوِّه ما يرى أن تشويهه يخدم مقصوده من العمل؛ فالعمل الأدبي ليس تقريرًا صحافيًا يستوجب الدقة والمصداقية والموضوعية، بل فن يسلط الضوء على نقاط ما بالكيفية التي يرتئيها الفنان.

وفي الجزء الثالث من حديثنا مع سومرست موم، سألناه بعد عبارات التحية.. سيد موم.. كيف تكتب؟

أولًا، لقد أصبحنا صديقين؛ فلا بأس أن تناديني كما يفعل أصحابي، إنهم ينادونني "ويلي"، وسأجيبك عن سؤالك، لكنني تذكرت قصةً طريفة وقعت سنة 1925، يمكنك أن تضيفها إلى فقرة إنتاجي الأدبي؛ فمع ظهور رواية "القناع الملوَّن"، أصدرتها في شكل سلسلة ببعض المجلات، وكانت سببًا في صداعٍ استمر طويلًا؛ فاخترت هونغ كونغ مسرحًا لأحداثها.

كان بطل الرواية مستر "لين" عالم البكتريا وزوجته؛ فرفع السيد لين وزوجته قضية على المجلة، وقضت لهما المحكمة بغرامةٍ قدرها 250 جنيه، واضطررت لتغيير الاسم إلى "فين"؛ فلم أسلم من الملاحقة أيضًا، وحامل الاسم هذه المرة يعمل بالسلك السياسي، ما اضطرني إلى تغيير مسرح الأحداث إلى "تشنغ ين"، وكانت القصة تدور في فلك الخيانة الزوجية. هذا الموقف يذكرني بحذاء الطنبوري في ثقافتكم العربية، وكم أتندر على ما كابدته من وراء "القناع الملوَّن".

بالعودة إلى سؤالك عن كتابتي؛ فإني أخطط طويلًا لكلّ أعمالي، ألزمت نفسي أن أبدأ كل عملٍ بشخصيةٍ لا تنسى، أو مكان جميل يستحق التصوير، وأتطرق لقصةٍ أو حادثة يمكن أن تقع، ربما أستغرق سنوات في تجميع جزيئات قصصي، لا شيء يغريني بالكتابة قبل اختمار الفكرة في رأسي، بل إنني أنتظر حتى أهتدي إلى نهاية القصة في ذهني قبل الشروع في كتابتها، ويروقني قول عامر بن الظرب "دعوا الأمر يغب حتى يختمر، وإياكم والرأي الفطير".


ولعلني سمعت عن كاتب مصري يدعى عبد الحميد جودة السحار، أتى بعد رحيلي بزمن يسير، قال: "إنه يكتب القصة القصيرة في جلسة واحدة، ولا يمسك قلمه إلا والنهاية حاضرة في ذهنه"، وهذا ضربٌ من الكتَّاب أغبطه، وطريقة من الكتابة أستحسنها.

أحرص أن تكون النهاية مفاجئة، لا يتوقعها القارئ بحال، وأحدد الدرس الأخلاقي والعاطفة السائدة. في منظوري الشخصي، يجب أن تبدو الكتابة الجيدة وكأنها بنت مصادفة سعيدة، أن تنقل لغة الشخصية وفق ما تنطقه في حياتها الطبيعية، بطريقة الفرنسية "كوليت"؛ فهي تكتب بسهولة توهم المرء أنها لم تبذل أدنى جهد في الكتابة، مع أنها تمضي صباحات بطولها لإعادة صياغة صفحة واحدة!

أنصح، في مسألة اللغة ومن تجاربي الخاصة، أن يكتب المرء كما يكتب أهل عصره؛ فاللغة حية ومتغيرة تغيرًا مستمرًا، ومحاولة الكتابة على نمط الأوائل لا ينتج عنها إلا التصنُّع، ولست أتردد في استخدام العبارات الشائعة في أيامنا هذه، إذا توافرت فيها الحيوية والحركة، رغم أنني أعرف أن شيوعها مؤقت، أو أنها عامية، وقد تمسي غير مفهومة بعد عشر سنوات. في قصتي الأولى "ليزا من لامبث" نقلت صورة دقيقة لأحاديثهم بلغة عامية دارجة. أعمالي الأدبية قد لا تبور، لا أقول ذلك كبرًا واستعلاءً، إنما لبساطة أسلوبها وسلاسته، ولم آخذ بنصيحة غوستاف فلوبير لأستاذي غي دو موباسان.

قيل عن موباسان "الكاتب الأصيل الذي دمرته نصائح فلوبير"، ومبعث ذلك أن فلوبير نصح موباسان أن يكتب للنخبة، وألا يقرأه إلا الخواصّ؛ فأضرت تلك النصيحة موباسان، بينما وضعت في حسباني أن أكتب ليقرأ الناس، وكان ذلك مسلكًا لم أفارقه، وتعلمت من موباسان أسرار الحوار الطريف.


ربما يحدثك موباسان بنفسه عن نصيحة فلوبير وما ترتب عليها، لكني أتحرى البساطة والوضوح، وأتجنب الألفاظ الوعرة والحوشية والوحشية، أتخير اللفظ الناصع المناسب وإن يكن عاميًا، المهم عندي أنه لفظٌ تأنس به النفس، ويرتاح له السمع، وكلما تقدمت بي السنون، زاد أسلوبي سلاسةً وطواعيةً ووضوحًا، لقناعتي بهذه الطريقة، ونبذ التقعير والتكلُّف في اللفظ والأسلوب.

الخيال ملكة تُربى بالممارسة والتدريب، لم أكن أعرف عن الخيال قليلًا أو كثيرًا، لكنني احتذيت نموذج موباسان، احتذيته في رسم الصورة لحي لامبث من 122 سنة. أنا صادق مع نفسي، وتدربت كثيرًا حتى تمكنت من رسم الصور والأخيلة والمشاهد، لم أمتلك هذه الموهبة ولكني تدربت، وعلمت لاحقًا وأنا قارئ نهم، يمكنك أن تطلق عليَّ باطمئنان شديد دودة قراءة، علمت أن والت ديزني فُصِلَ من عمله بدعوى أنه لا يملك أفكارًا إبداعية، ولا يمتلك خيالًا خصيبًا، وقتها أيقنت أن هذا الرجل لو أصرّ على النجاح فسيدهش الجميع، وهذا ما جرى حرفيًا.

ولست أعرف تدريبًا للكاتب أفضل من البقاء بضع سنوات في ممارسة الطب، ولو أنني أطلت العمل في الطب لاكتسبت خبراتٍ أكبر، وقد أفاد نجيب محفوظ من ذلك؛ فلم يفرِّط في وظيفته، ولم يفرِّط حافظ إبراهيم في عمله الحكومي، لكنني والمتنبي لم نركن للوظيفة، واسمح لي أن أهتبل هذه الفرصة وأرد على السيدة سيلين هاستيغ؛ فقد ألفت كتابًا عنوانه "الحياة السرّية لسومرست موم" نشرته سنة 2009، زعمت فيه أنني لم أُتْمِم دراستي للطب، وهذا غير صحيح بالمرة.

نعود لما انقطعت عنه، أقول إن مواهبي الطبيعية ليست باهرة، لكنني صارم في حياتي وتصرفاتي، ما مكنني من استكمال ما ينقصني وأستدرك عيوبي، وقد رُزِقتُ حسن الفهم، ومعظم الناس لا يستطيعون رؤية شيء، بينما أستطيع الرؤية الدقيقة وبوضوح شديد، وأعظم الكتَّاب يستطيع بصرهم أن يخترق آجر الحائط، لكن بصيرتي لا تملك هذه القوة النافذة.

لم يستهوِني ذلك الوهم والتبجيل المحيط ببعض الكتَّاب، يحشدون أسرابًا من الغموض في أعمالهم، ويعمدون إلى الالتواء والإيغال واللولبة والتقعُّر اللفظي، كأنهم أصحاب رسالات متميزة! هؤلاء وأمثالهم يذكرونني بأبي علقمة في تراثكم العربي، هذا النحوي المتقعر المتكلِّف، لم يرق حديثه للناس، وضرب على نفسه سياجًا من العزلة، ولو أنه حدثهم بلغتهم لنقلوا عنه وأفادوا منه.

توازي الكتابة المسرحية نصف حياتي، أما وقد عرفت هذا؛ فقد صار عليَّ أن اعتبر التحاور من بين أعمالي اليومية، إني أتمرن على ما يمكن أن يقوله أشخاصي، وأنا في مغطسي، في الصباح، أحاول أن أقلِّدهم ما سنحت لي الفرصة، بهذه الطريقة أو تلك، إلى أن أتحدث مثلهم. أسلوبي المسرحي لا يختلف عن القصصي والروائي، لا التواء فيه ولا تعقيد، مثل أسلوب جورج برنارد شو، وأفكاره بيّنة ناصعة.

بالنسبة لمجمل أعمالي؛ فكان يقال إن بعض الكتب توضع في واجهة المكتبات للزينة، وبعضها توضع جانبًا ليتراكم عليها الغبار، ومنها كتابات ثرولوب ومريدت وثاكري، وهناك من تحظى آثارهم بالبقاء؛ فينتصرون على واجهات المكتبات وعلى الغبار، بسبب شعلة القوة الكامنة في تلك الآثار، ومن هؤلاء المبدعان تشارلز ديكنز وصاحب "كحك وخمر". أحبوا تلك الرواية مع أنها ليست الوحيدة، ولولا اختلاف الأذواق لبارت الآداب والفنون؛ فكلها سلع معروضة وتخضع للعرض والطلب.



مع النقاد
إن كانت مقولة "الناقد فنان فاشل" صحيحة لدى عدد عديد من أقطاب الفكر؛ فإن الناقد شرطٌ ضروري للفنان، يهديه ويرشده للطريق. يقول أناتول فرانس: "الناقد المجيد هو الذي يحكي عن مغامرات روحه مع روائع الأعمال"، ويرى جورج سانتايانا أن النقد عمل قومي جادّ، يبدي لنا الجنس البشري، ويفصل الجزء الخالد في روح الإنسان عن الجزء الذي يصيبه العطب والفناء، أما إميرسون فيؤمن أن النقد لا ينبغي أن يكون بحثًا عن الشجار، وألا يدعو إلى هدر الطاقات؛ فلا يُمسِك الناقد سيفًا أو سكينًا ليبتر الجذور، إنما يوجِّهها قدر استطاعته، وأن يكون معلِّمًا لا جلادًا. من جانبه، يضع سانت بيف الناقد في مكانة مسؤولة؛ فينصِّبه وزيرًا للجماهير، تسبق ساعته ساعات غيره بخمس دقائق.

في حياة موم الأدبية، النقد لا أهمية له ولا يقيم له وزنًا؛ فهو يكتب ما يعجبه وإن لم يجد لنفسه جمهورًا، وإن لم يتقبل النقاد كتاباته، وهذه إشكالية في دنيا الأدب، وموجزها أن الأديب في الأصل يكتب ليُقرأ؛ فإن لم يقرأ الناس ما كتب، فما قيمة كتابته؟ وقد ناقشت أستاذنا يحيى حقي في هذه المسألة نقاشًا طويلًا، سنعرض له في حينه بالتفصيل.

لم يتقبلوا مسرحياته، وأعابوا عليه نزعته الكلبية، لكنه مضى دون أن يصغي لنقدهم، ساعده في ذلك نجاحه المالي، وآمن أن الاستقلال المالي يضمن الاستقلال الذاتي، وهذا عين ما يبحث عنه.

واختلفوا - أي الأدباء والنقاد - حوله، عدَّه سيريل كولوني Syrill Connoly أفضل كتاب القصة القصيرة في الأدب الإنكليزي الحديث، بينما رفض إيدموند ويلسون Edmund Welson أن يعدَّه أديبًا من الأساس! طرفا نقيض هذا الأمر أديبان ناقدان لهما قدم راسخة في دنيا الأدب الإنكليزي، ويحظيان بمكانة مرموقة وآراء حصيفة. لم يهتم به كبار نقاد عصره؛ فهذا إيريك بنتلي في كتابه "Play write as Thinker" يكتب عن موم (نصف سطر)، وذاك فرانسيس فرجسون في كتابه "The Idea of Theatre" لم يكتب عن موم حرفًا واحدًا!

يقدِّم النقاد قصص تشيخوف وكاترين رامسفيلد على سومرست موم؛ لأن قصص موم متقنة التخطيط حسنة البنيان، ما يجعلها بعيدة عن واقع الحياة، فالواقع لا يعتمد هذه الدرجة من التنظيم المتقن، في حين أن قصص تشيخوف ورامسفيلد تعرض الحياة على حقيقتها بما فيها من تناقض وفوضى.

في علم النفس، تقول نظرية الأعمال المتناقضة إن محاولة قمع الفكرة تعزز وجودها، هذا نصًا ما جرى؛ فأقبل القراء على كتابات موم، عندما أسرف النقاد في تضخيم مثالبه ومعايبه، واتهامه بالإسراف في النزعة الكلبية، ولما كانت نجاحاته تخطف لباب الجمهور، قال بعض النقاد إنه لا بدّ أن يكون كاتبًا موقوت الشهرة محدودها، سرعان ما يتزحزح عن مكانته، ويزول تأثيره عما قليل.

يومها، كان النقاد يزدرون الكاتب في حالات بعينها، على رأس تلك الحالات أن تحط الشهرة عصاها في ساحته، أو أن يباع من كتبه ما يزيد عن عشرة آلاف نسخة؛ فالكتاب الجيد - في عرف هؤلاء النقاد - لا يُباع ولا يُتداول ولا يفهمه القارئ العادي! نجاح الكاتب محسوب عليه عند هؤلاء، وإقبال الجمهور على كتابته دليل كافٍ على سطحيته وتفاهته!

يقول موم وهو يسترجع ذكرياته مع النقاد: قلت لأحدهم يومًا: "تستطيع أن تكتب عني ما تشاء؛ لأنني لا أقرأ أبدًا ما تكتبه"، إنهم اتهموا قصصي بالسطحية وأنني أكتبها لمجرد التسلية؛ فقلت: "إن هدف الفنان إدخال المتعة على النفوس، ولست أدري لماذا أكتب إذًا؟! ولماذا أحترف الكتابة إذا لم يقرأ قصصي أحد؟!".

مساومٌ بارع، يعرف لمؤلفاته قدرها، يرى المال حاسّة سادسة، من دونه لا يمكن أن يستفيد الإنسان استفادة تامة من الحواسّ الخمس الأخرى، وقد عني بتنمية ثروته ليضمن استقلاله ويحافظ على حريته، ما حثَّه على كتابة ما يروقه، قبل أن يفكر في ما يعجب الناس ويرضيهم، وفي ذلك يقول: "كان سروري مستقلًا عن النتيجة التي يسفر عنها عرض المسرحية"، ويضيف: "أكتب بدافعٍ من الإبداع، وليس بدافعٍ من الحاجة، ولهذا لا أعاني العناء العقلي الذي يستولي على البعض".

بهذا نكون قد تعرفنا عن قرب إلى سومرست موم، بداياته وإنتاجه الأدبي وسجاله مع النقاد، ويبقى لنا جانب شديد الأهمية، حياته الشخصية وتأثيرها في كتاباته، وقصته غير الطبيعية في انتظار الموت، وقد وعدني أن يخبرنا بتلك التفاصيل المشوِّقة؛ فحتى ذلك الحين كل عامٍ وأنتم بخير.