هي صلاة التراويح خلصت يا طنط؟!

هي صلاة التراويح خلصت يا طنط؟!

12 اغسطس 2019
+ الخط -
منذ عدة أشهر شاهد الكثيرون منا فيديو بشعاً لإحدى الأمهات وهي تدفع طفلاً في حوالي الثامنة من عمره بهستيرية عبر نافذة من سلم إحدى العمارات، وتقرعه وتسبه بجنون مطالبة إياه بأن يتعلق بطرف شرفة شقتهم ويتسلقها ليفتح لها الباب الذي تسبب نسيانه وإهماله في غلقه وهما خارجه فيما المفتاح في الداخل.

كان منظر الولد مرعبا وهو يصرخ ويتشبث بأطراف النافذة في ذعر، وكلما همّ بمد جذعه نحو الشرفة استجابة لدفع الأم، هاله فرق المسافة، وأرعبه احتمال السقوط في الشارع من ارتفاع عدة طوابق، فيظل يصرخ ويستعطفها وهي سادرة في غيها وهيستيريتها بلا أي تقدير للعواقب. في النهاية تم إنقاذ الصغير من براثنها، وملأ الفيديو والخبر الجرائد والمواقع الإلكترونية، وقاموا بعمل لقاءات بالأم والأب. والمثير أن تنجح هذه الخطوات الإعلامية في استدرار التعاطف معهما بدلا من تشديد الاستهجان الشعبي لما حصل، والمطالبة بمحاسبتهما! فهي أسرة فقيرة، والأم مقهورة وتحت ضغط كبير، والولد شقي كما تعرفون، وما حدث خطأ غير مقصود طبعا، وهما وليّا أمر رائعان مثلنا جميعا، والطفل يحتاج أمه مهما حصل، و"نساع بعض"، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء!

والسؤال هنا: هل تمكننا ثقافتنا الاجتماعية من حماية الأطفال وهم في طور الطفولة الأولى حيث أشد درجات ضعفهم وحاجتهم للحماية؟ وهل من الإنصاف الاعتماد على مظلة الأسرة فقط لتوفير هذا الغطاء الضروري؟ أقصد الاعتماد عليها وحدها في ظل زيادة سكانية كبيرة تضمن انتشارا مفجعا للسلوك المضطرب والمرض النفسي والعقلي الأصيل أو الناتج عن الضغوط وتعاطي السموم؟ وهل ما زلنا نرى دور الدولة في مثل هذه الأمور هامشيا ولا يصح توسيعه باعتباره تدخلا في السلطة الأبوية وبحث فضولي مستهجن فيما وراء أبواب الناس وأستارهم، باعتبار أن كل باب مقفول على ما فيه هو دليل كافٍ بأن كل شيء تمام؟


تحضرني قصة شهدتها لإحدى الصديقات العربيات بالخارج، تحكي أن مربية الحضانة التي كانت تترك فيها صغيرها أثناء عملها هاتفتها في مرة، ونبرتها كلها حسم وجدية، لتبلغها بأن المكالمة التليفونية مسجلة، وبأنها تتصل لتستفسر عن بقعة زرقاء كبيرة تغطي مؤخرة الطفل الصغير لاحظتها مع المساعدة أثناء تغيير الحفاضات له. فاضطربت صديقتي من الخبر ومن نبرة التحقيق التي تتحدث بها الموظفة، وقلقت على صغيرها من أن يكون قد أصيب أو سقط، لتجد المربية تتابع وتسألها بمنتهى المباشرة:

هل اعتدتِ أنتِ أو أي من أفراد الأسرة ضرب الصغير على مؤخرته بقسوة كوسيلة للعقاب؟ فبالرغم من أن الضرب الخفيف على المؤخرة هو وسيلتنا لتنبيه هذا السن للخطأ والخطر، إلا أن ما أراه من كدمة هااااائلة يتجاوز المسموح به بكثير ويعرض المتسبب فيه للمساءلة القانونية.

تحكي لي صديقتي أنها تلعثمت وأسقط في يدها لعدة دقائق، قبل أن تتذكر أن ما تراه السيدة هو وحمة وُلد بها الصغير وهي تخفت وتتلاشى عبر السنين كما حدث لأخيه الأكبر سنا. وبالطبع احتاجت لشرح وتأكيدات عديدة لإثبات كلامها لموظفي الحضانة، فضلا عن إمضاء أوراق تسجل شهادتها وتخلي طرف المؤسسة في حال اكتشاف أي دلائل اعتداء بدني في المستقبل.

ولا جديد في أن نقرر أن تعاملنا مع مثل هذه المواضيع في بلادنا العربية كلها يكون بكل الخفة والتهوين بل والسخرية. فثقافتنا تغذيها تصورات دينية مغلوطة ترفض ربط الوصاية الأسرية على القُصّر بحسن سلوك أولياء الأمور وكفاءتهم النفسية والعقلية، وتعتبر الوصاية حقا مطلقا للوالدين والأهل، وتربطها بفضيلة البر ورد الجميل وحسن الخلق. وتتعاطف مع ولي الأمر المهمِل، بل وأحيانا المجرم، وتجد له الأعذار وتأسف لما يعانيه وما يرزح تحته من ضغوط.

ومن ذلك أنني فوجئت مرة بإحدى العاملات البسيطات، وهي متزوجة ولها ابنتان، تأتينا بخبر عثور زوجها على توأم أمام باب الجامع الذي يصلي فيه. وحبكت على مدى عدة أشهر قصة مطولة عن إجراءات تسليم الطفلين وما حدث فيها، ثم تشبث زوجها الكهل الفقير المتقاعد برعاية الطفلين، ثم إصراره على تسجيلهما باسمه في شهادات الميلاد وتفاصيل أخرى كثيرة. ولما كانت ثغرات القصة تستدعي الكثير من علامات الاستفهام من السامعين، ومنها مثلا الاستفسار عمن يراعي توأما حديث الولادة وهي وزوجها في عمل شاق طيلة اليوم، كانت تجيب ببساطة بأن الجيران جازاهم الله خيرا يتولون المهمة بالتبادل، وكذلك تساعدهم ابنتاها أحيانا حتى عودتهما ليلا. ثم تستطرد، درءا للتعجب وعدم التصديق، بأن ابنتاها وإحداهما في التاسعة والأخرى في الخامسة عشرة قد تربتا عبر السنين بين بيوت الجيران الطيبين بنفس الطريقة، وبأن "الناس لبعضها" و بلدنا لا تعدم الخيرين والكرماء.

وبغض النظر عن مصداقية القصة والهدف من ورائها، لا يملك السامع إلا أن يفكر فيما جرى ويجري لأطفال لا حول لهم ولا قوة وهم يتنقلون بين أيادي الغرباء وبين حجراتهم طوال اليوم وعلى مدى سنوات وسنوات!

وفي حادث شديد التكرار سمعت عن موظفة اعتادت ترك طفلين صغيرين في الشقة وإغلاق الباب من الخارج بالمفتاح حتى عودتها من العمل. ولما أشعل أحد الطفلين النار تحت قدر الزيت واندلع حريق مرعب بدخان كثيف، هرب الصغيران للشرفة، ولم يستطع أحد كسر الباب بعد محاولات مضنية. وتم إنقاذهما عبر الشرفة بأعجوبة.

وكذلك من ينام ويترك صغيرا في الرابعة يلهو في طول البيت وعرضه حتى تقوده شقاوته لسور الشرفة، فينزلق ويسقط صريعا أمام المارة في مشهد مرعب يكمله حمل الناس للطفل المتوفى وصعودهم للدق على باب ولي الأمر النائم، فيفتح لهم الباب وهو يفرك عينيه لتريا جثة ابنه حكما دامغا على إهمال لا عذر له. ومع ذلك نتعامل مع الأمر بمنطق الحادث والقضاء والقدر ونتعاطف مع المكلوم وهو نفسه الجاني.

ولا أنسى أبدا، بالرغم من مرور السنين، تهدج صوت طفلة في السابعة كانت صديقة لابنتي في أوائل المدرسة الابتدائية. هاتفتني في إحدى ليالي رمضان وإذا بصوتها مضطرب وقلق وهي على وشك البكاء وتسأل بمنتهى الخوف والضعف عما إذا كانت صلاة التراويح قد انتهت أم لا لأن أمها خرجت للصلاة ككل ليلة وتركت أخيها الصغير ذي الثلاث سنوات في رعايتها، وقد اصطدم رأسه بقطعة أثاث ونزف، وهي مرتاعة ولا تعرف ماذا تفعل! وجدتني ساعتها أغضب بلا وعي وأدعو بألا يتقبل الله منها صلاتها بحق ذلك العبء الذي تقصم به ظهر الصغيرة، وبحق الفزع الذي أصاب المسكينة، وبحق المجازفة بسلامة وحياة قُصّر صغار. فهي تترك فرض العين في حفظ الروحين الغاليتين في سبيل نافلة كان يمكنها أداءها في البيت معهما.. أو كان لها تركها بلا غضاضة أصلا..لولا الجهل أو المراءاة أو كلاهما للأسف.

وإذا اندرج كل ما سبق وغيره الكثير في باب الإهمال الجسيم الذي قد يهدد حياة الصغار، فهناك ما يحدث داخل الأسرة ويُدرج في باب الجرائم المتعمدة. أو في باب الجرائم التي يقترفها مرضى عقليون أو نفسيون غير أهل للولاية على أطفال لا حول ولا قوة لهم. ويغشاني الخزي والألم والله وأنا أؤكد، من ضمن كثير الخبرات والمشاهدات والقراءات، أن الاعتداءات البدنية المميتة، وكذلك حوادث الاغتصاب وهتك الأعراض، والاستغلال البدني والنفسي، والإجبار على التجارة الممنوعة والتسول وزيجات الأطفال، وصولا للطرد للشارع.. كلها جرائم تحدث للأطفال في بلادنا داخل نطاق الأسرة أكثر مما تحدث خارجه.

وما نتداوله من قصص بهذا الخصوص هو غيض من فيض الحاصل. والمراقب يعرف جيدا أن مستوى التعليم والوعي والسعة المادية تؤثر في تحجيم هذه الظواهر داخل الأسرة. لكن ذلك لا ينفي انتشار عدم الأهلية والإساءة وتهديد السلامة في كافة الطبقات الاجتماعية بلا تخصيص، مما يستلزم تدخلا حاسما ومنظما من الدولة يحدد الإساءات ودرجاتها، ويعاقب ضدها بعقوبات متدرجة. والهدف أولاً وأخيراً هو حفظ النفس، وحماية الضعيف، وضمان سلامة الأجيال القادمة، وليس التدخل الفضولي أو فصم العرى الأسرية بكل تأكيد. وليكن رفع الوعي الاجتماعي وتغيير الصور الذهنية الخاطئة هو بداية مسعانا في هذا الطريق الطويل.
6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى