تحليل بول جماعي في مدرسة سورية

تحليل بول جماعي في مدرسة سورية

10 اغسطس 2019
+ الخط -

منذ أيام قليلة اتصلت بنا البلدية هنا في فرنسا لتخبرنا أن الطلب الذي قدمناه ليتمكن الأطفال من تناول وجبة الغداء في مطعم المدرسة معلّق حتى نقدّم لهم دليلاً يثبت أن الأطفال تلقوا لقاحاتهم وخاصة لقاح الدفتريا. وبعد أخذ ورد ترجمنا دفاتر اللقاحات وحلفنا الأيمان المغلظة أنها صحيحة وأن الأطفال تلقوا فعلاً هذه اللقاحات، وقبلت موظفة البلدية بعد أن بينت لنا أن الأمر مهم جداً لحماية الأطفال من العدوى والأمراض الموسمية وغير ذلك من المشكلات الصحية.

ولأنني مصاب بحمى المقارنة التي لا شفاء منها لم أستطع منع نفسي من مقارنة هذا الحرص على صحة الأطفال بما عشته في المدارس السورية، لا أتحدث هنا عن حالات الرشح والكريب وموجات الجدري التي كانت تجتاح المدرسة من أول طالب إلى آخر طالب، بل عن قصة مغايرة تماماً تثبت بالدليل القاطع أن ما يفعله الفرنسيون هو محض مبالغة لا داعي لها.


كنت طفلاً في الصف الثاني الابتدائي في مدرسة بريف محافظة الرقة عندما دخلت المدرسةَ سيارةُ إسعاف بيضاء ترجل منها عدد من الرجال يرتدون ثياباً بيضاء أيضاً وتوجهوا إلى الإدارة، دقائق قليلة ثم خرج المدير مصحوباً بالمعلمات اللواتي قمن بجمعنا في أرتال وبدأنا بالمرور واحداً واحداً من أمام السيارة حيث كان يعطينا أحد الممرضين علبة بلاستيكية شفافة صغيرة بغطاء أبيض ويطلب منا أن نتبول فيها.
لم يكن في المدرسة دورات مياه أصلاً، كان لدينا خندق ترابي كبير يقضي فيه الطلاب حاجتهم، وكانت أمي قد حذرتني من الاقتراب منه. أخذنا علبنا وتحركنا بشكل جماعي نحو الخندق، انتحت الفتيات زاوية غير مكشوفة وانتشرنا نحن الذكور في خط مستقيم وكأننا على جبهة عسكرية وسرعان ما حوّلنا الخندق إلى حقل رماية وتسديد مفتوح.

انتهى الجميع، وبدلاً من التوجّه إلى السيارة لإعادة العلب بدأ فصل جديد من العبث، حيث راح الأطفال الذين تمكنوا من ملء العلبة يسخرون من أولئك الذين لم يتمكنوا من ملئها. وشعر البعض بالحرج فتطوّع آخرون وتبرعوا ببعض البول لأصدقائهم، وسرعان ما تشجع الجميع وبدأت عمليات لا نهاية لها من التبرع والمبادلة، إلى جانب حالات من الكرم الحاتمي الذي أصاب البعض خاصة عندما شاهدوا علب الفتيات شبه الفارغة.

أمام كل ذلك كنت واقفاً مشدوهاً أحمل علبتي شبه الفارغة رافضاً عروض التبرع والمقايضة متخيلاً وجه أمي الغاضب إذا علمت أنني شاركت في هذا الحفل المجنون! ولم ينته الأمر بالرفض، إذ سخر بعض الأطفال من أصحاب الإنتاج الوفير مني أنا الضعيف الهزيل الذي لم يتمكن من ملء العلبة، وراحوا يرددون عبارة: حلبي زلبي حلبي زلبي، في سخرية مما اعتبروه مدنية وليونة.

بعد أن نادى المدير علينا بمكبر الصوت تجمّعنا ثانية أمام السيارة وسلّمنا العلب حيث وضع أحد الممرضين ورقة لاصقة على كل واحدة مع رقم ودون في جدول منفصل الأسماء بجانب الأرقام، ووقف المدير يرقب عملية التسليم وهو ينظر بفخر إلى العلب المملوءة سعيداً بإنجاز تلاميذه في حين لم تفارق الابتسامة وجه الممرض. جاء دوري وباستحياء مددت العلبة إلى الممرض الذي نظر إليّ وقد اختفت ابتسامته وقبل أن يتكلم قال له المدير: معليش دكتور هذا ابن نائب رئيس المخفر.. فنجوت!

وهكذا كنت بحاجة إلى تدخّل سلطوي حتى أنجو بهذه الفعلة الشنيعة.

بعد عدة أسابيع عادت السيارة ذاتها مع سيارة أخرى، نزل منها أصحاب الأردية البيضاء على عجل وبوجوه مقطبة وتوجهوا إلى الإدارة، وكالمرة الماضية قام المدير بجمعنا في الساحة على شكل أرتال ثم نادى أحدُ الممرضين باسمي فخرجت، وأعلن أن كل من تبقى مصاب بالمرض ولا بد من إعطاء الجميع حقنة حقنة على الماشي، بالإضافة إلى علبة دواء سيأخذها الطفل معه إلى البيت.

بدأ إعطاء الحقن وبدأ البكاء والعويل يشق كبد السماء، وبعد الانتهاء نظر أحد الممرضين نحوي وسأل المدير: هل أخذ الحقنة؟ فقال المدير: لا لا دكتور... هذا ابن نائب رئيس المخفر! فهز الممرض رأسه وكأن ذلك يكفي حتى لا أكون مريضاً، أما أصدقائي الأطفال فبعد أن توقفوا عن البكاء أخيراً عادوا مجدداً لاعتباري جباناً رعديداً يخاف الحقنة، ويستحق أن يُقال له مرة أخرى: حلبي زلبي حلبي زلبي!

دلالات