احتيال الاحتلال

احتيال الاحتلال

09 يوليو 2019
+ الخط -
تحت ظل الملكية وخنقة الاحتلال الإنكليزي الذي كان في نطاق جغرافي مسيطراً على كل شيء، بداية من الملك إلى الشغيلة والعمال ومن هم على باب الله، ولكن بطبيعة الحال المحتل كالمغتصب، فما إن تملك الجسد تسعى الروح للهروب، وحتى إن سكنت الجوارح فالعقل جارح بكل شيء وبأي لحظة.

في بداية الحقبة التسعينية توقدت الثقافة المصرية وبدأت حركة التجديد والنهضة الفكرية والعلمية بين الكتاب والمفكرين المصريين، واتسعت الدائرة في كل شيء فاطلعوا على الفلسفات الغربية والأدب الأوروبي، سعياً للوصول إلى مرحلة الوعي والقدرة الثقافية التي حاوطها الاحتلال بالغمام، فقام أدباء هذه الفترة بتفتيت الغمام وانتشال الثقافة من المحطة الأخيرة قبل أن يصدمها قطار المستعمر.


في الأدب مثلاً تفرد الشعر وابتلع الشعبية الكبرى بين القدماء، لكن أدخل الكتاب في هذه المرحلة فنوناً مختلفة كالمسرحية والقصة القصيرة والرواية، فكلها فنون مستوردة ليست أصيلة في الأدب العربي، وأخذت الكتابة شكلاً جديداً، فيبهرنا توفيق الحكيم بمسرحية "أهل الكهف"، ثم الأستاذ هيكل يضيف إلى الأدب قصة "زينب"، فيتبعهما صلاح عبد الصبور بـ"مأساة الحلاج"، ويبدأ نجيب محفوظ خطواته الأولى في كتابة الرواية بثلاثيته التاريخية "كفاح طيبة - رادوبيس - عبث الأقدار".

ورغم كل ذلك لم تكن مياه الحركة الفكرية والفلسفة راكدة، ولكنها أصبحت متجددة على يد الإمام محمد عبده وتلميذه طه حسين والعقاد، وغيرهم، وهنا أسلمك إلى ثلاث قصص حدثت في هذه الآونة تستطيع أن تقارن بينها وبين ما نحن عليه، وأتركك تحكم، فلا تظن مني أي تدخل لتعديل أخلاقي أو التنظير الأدبي.

الدكتور طه حسين كتب "في الشعر الجاهلي"؛ وهو عبارة عن بحث علمي ودراسة لتاريخ الأدب والشعر العربي، وتوصل فيه إلى إنكار نسب الشعر الجاهلي، وغيره من القضايا التي أثارت الصيحة التي تعالت على طه حسين، ومنها ما نادت بكونه مرتداً عن الإسلام. ونلاقي رد فعل أخاف أن يصفه جهاتنا اليوم بالحمق أو الجنون، فإذا برئيس الحكومة وقتها، وكان عدلي يكن باشا، يتقدم باستقالته حماية لحرية البحوث العلمية الجامعية وحرية التفكير.

والقصة الأخرى عندما كتب علي عبد الرازق كتاب "الإسلام وأصول الحكم" الذي سبب نعرات مختلفة في أصداء المحروسة، تقدم عبد العزيز فهمي باشا باستقالته بسبب خنق حرية البحث العلمي.

ويأتي الأستاذ أحمد خلف الله الذي تقدم برسالة دكتوراه لكلية الأدب بعنوان "الفن القصصي في القرآن"، فبادره أساتذة الجامعة بالرفض واتهامه بالكفر لمجرد بحث علمي عن الوقفات القصصية وبلاغة السرد بالقرآن الكريم، مع عدم ممانعة الأزهر لرسالة الدكتوراه على لسان الشيخ شلتوت الذي وضّح رأيه بعدم الممانعة.

فكل هذه التأملات التي جرت لمعرفة الحوادث التاريخية التي من المفترض أن تلقي علينا العبرة، فهل نرى اليوم رئيس حكومة أو وزيراً أو حتى غفيراً يترك منصبه لحماية البحث العلمي؟ هل نلاقي أستاذ جامعة ينتفض للتعبير عن ضرورة حرية التفكير وعدم احتلال الفكرة؟! .. لربما..!
A03D0CDD-E864-4548-B17D-EBCC894B1E58
محمود أبو عبية

طبيب وشاعر وكاتب قصص قصيرة ومقالات متنوعة فى الفلسفة والتاريخ والأدب الساخر.. ابن الحارة المصرية وعابر سبيل فى دنيا الله.