الجنة كان اسمها بيروت (3)

الجنة كان اسمها بيروت (3)

10 يوليو 2019
+ الخط -
«خلّصوا الأغاني هنّي ويغنوا عالجنوب
خلّصوا القصايد هنّي ويصفّوا عالجنوب
ولا الشهدا قلّوا ولا الشهدا زادوا
وإذا واقف جنوب واقف بولاده
خلصوا القضايا هنّي.. ويردّوها عالجنوب
اللي عميحكوا اليوم هاو غير اللي ماتوا
المعتّر بكل الأرض دايما هو ذاتو».

كأن أغنية زياد الرحباني المريرة التي تنبعث الآن من تلفزيون لوبي الفندق قد كُتِب عليها أن تظل أغنية خالدة تؤرخ للبنان طيلة حياته الموعودة بنفس الذين يحكون دائما نفس الحكي، بينما يموت نفس "المعتّرين" عاثري الحظ الذين يموتون دائماً. تذكرتها على الفور بعد أن بدأت المحطات الفضائية اللبنانية تذيع حصيلة دمار الثلاثة الأيام الأولى من المجزرة الإسرائيلية مصحوبة بأغاني مارسيل خليفة وجوليا بطرس وفيروز وماجدة الرومي. كل تلك الأغاني التي تنعي بيروت «ست الدنيا» وتتحدث عن «الكرامة والشعب العنيد» وتسأل: «وين الملايين» وتصرخ: «له لالاه لالاه لالاه»، كلها عادت والعود غير أحمد، وعاد معها لبنان عشرين عاما إلى الوراء تماما كما تعهد الإسرائيليون، أفكر في شعور موظفي الأرشيف في محطات الإذاعة والتلفزيون وهم يتلقون من رؤسائهم طلبا باستخراج أغنية «راجع يتعمر لبنان» في أسرع وقت، هل كان أحد يتصور أن الحاجة ستظل قائمة لتلك الأغنية بعد أن تعمر لبنان وعادت بيروت لتصبح من جديد عروسا للعرب.

أقول لنفسي: ماذا لو كان موظفو الأرشيف قد قرروا التخلص من كل تلك الأغاني التي نعت الخراب والدمار وواست أسر الشهداء ولعنت نوم العرب وتخاذلهم؟ من كان يصدق أن المرثيات القديمة لازالت صالحة لمزيد من الموتى؟ تتوالى الأغاني وأتأمل في حال من يغنونها الآن، جوليا بطرس مطربة الثورة والمقاومة تعاقدت مع شركة روتانا التي لم يعد أحد ينتج في الوطن العربي غيرها، وماجدة الرومي تغني اعتزلت الغرام، ومارسيل خليفة مشغول بتأليف الموسيقى الخالصة لكي يظل «منتصب القامة يمشي مرفوع الهامة يمشي»، ووديع الصافي يعد توزيعا جديدا لـ «الله يرضى عليك ياإبني» يغنيه مع ابنه الذي لم يأخذ منه شيئاً حتى الصلعة، وصباح تعاني من أزمة مالية تدفعها لعمل دويتوهات مع من هب ودب من المطربات الخنفاوات، والسيدة فيروز سلمها الله من كل سوء ستبقى تحت القصف كما تعودت دائما، لعلها حزينة للغاية لأنها لن تلتقي بجمهورها الذي جاء من كل بقاع الدنيا لكي يشاهدها على خشبة المسرح بعد طول غياب، ولعلها حزينة أكثر لأنها ربما تغني من جديد للجنوب المحرر والمهدد الآن بالاحتلال من جديد: «إسوارة العروس مشغولي بالدهب وإنت مشغول بقلوب يا تراب الجنوب». هل أبتعد كثيراً عن كل المشهد المفزع المحيط بي لو قلت إن جميع هؤلاء المطربين العظام في تلك اللحظة لم يكونوا من المتصدرين للساحة الغنائية اللبنانية التي كانت وقتها مشغولة بإبداعات دانا أول مطربة لم تخضع لعمليات تجميل، وحرب هيفاء ودومينيك على الواوا، وارتداء أمل حجازي لتي شيرت أثار الجدل لأنه كما قيل "يرتديه الشواذ في الغرب"، لكن في ثوان ذهب كل هؤلاء إلى النسيان وعادت الأغاني القديمة بعد أن عاد الجرح القديم طازجا غزير النزف.


تريد الحق؟ لم تزدني إلا كآبة وهما كل تلك الأغاني التي جلست أستمع إليها في بهو الفندق وأنا أنتظر مع زوجتي قدوم السيارة التي سنهرب بها من جحيم الحرب، لم تَشد تلك الأغاني من عزيمتي كما كانت أتصورها ستفعل، ولم تبث فيَّ روح الحماسة والمقاومة والأمل كما كان يُفترض، ربما لأنها ذكرتني بأنني استمعت إليها هي ذاتها طيلة عشرين عاما أو ربما أكثر، وأنا أشاهد منذ نعومة أظافري حتى خشونتها في كل محطات التلفزيون أشرطة خراب مصورة للبنان المخرب أحيانا بأيدي أعدائه وأحيانا بأيدي أبنائه، لم تكن اللقطات الجديدة التي حضرتها محطات التلفزيون الآن على عجل تحمل نفس الدمار الذي لازال منطبعا في ذاكرتي برغم مرور السنين، لكن هذه الأغاني تنذر به والعياذ بالله.

الوقت يمر بطيئا وذاكرتي الملعونة ترميني بكل ما يسكنها من تفاصيل عن لبنان وحربه ودمه النازف ومعاناة أهله، أستعيد كل ماقرأته عن بيروت تحت الحصار وتحت الحرب، يختلط في ذهني المكدود محمود درويش وهو ينشد «أنا أحمد العربي فليأت الحصار» مع محمود الجندي وهو يلوح بزجاجة الخمرة في فيلم ناجي العلي سائلا: «هي الجيوش العربية مش هتيجي؟»، حكايا علوية صبح في روايتها (مريم الحكايا) عن مريم في زمن الحرب وهي تختلط بمشاهد زياد دويري وجان شمعون وهم يروون سيرة الحرب التي لم يتخلص اللبنانيون بعد من لعنتها. أتذكر كل شبر زرته في بيروت كأنني لن أراها ثانية، لكن صوت الطائرات الإسرائيلية التي لم تعد تهدر في السماء بل أصبحت تحوم يذكرني بأن الوقت لا زال مبكرا على هذا الانفصال العاطفي عن مدينة يمكن أن تموت فيها بسهولة. لم أعد أحتمل منظر المارة وهم يسيرون لينظروا إلى السماء في أثناء سيرهم في الشارع، لم أعد أحتمل هرولة عمال المحال المجاورة إلى بهو الفندق بين الحين والآخر للسؤال عن آخر جسر تم هدمه أو طريق تم قصفه، لم أعد أحتمل هذا الحوار المتواصل حول حجم ماتم تدميره في الضاحية الجنوبية وتوقع ماسيتم تدميره الليلة أو ربما الآن، عندما أسمع كل هذا وأتذكر أنني أجلس في انتظار وسيلة الهروب من بيروت أشعر بالعار. ليس لديَّ خيار آخر سوى الخروج من لبنان لكني أشعر بالعار، لو لم أعترف لك بذلك العار فسأشعر بالمزيد من العار.

تنشغل زوجتي بالبحث عن أي أخبار جديدة على الإنترنت، بينما أتعرف في اللوبي على شريك رحلة الهروب المنتظرة، «علاء كامل» مصري حاصل على الجنسية الأسترالية، يقيم في الولايات المتحدة حيث يعمل في واحدة من أكبر شركات الأدوية في العالم، جاء إلى لبنان لكي يحضر عرض مسرحية (صح النوم) والتي كانت ستفتتح في بعلبك مساء الخميس، في ذات ليلة اشتداد الهجوم الوحشي على لبنان كله من شماله إلى جنوبه، لم يعتمد علاء على السوق السوداء مثلي ولا على علاقات الأصدقاء، اشترى تذكرته من على الإنترنت مبكرا، وأعد نفسه لحدث تاريخي يضعه في سجل ذكرياته جنبا إلى جنب مع حفلات حضرها في العالم كله لعدد من أبرز نجوم الغناء. لزوم قتل الوقت والتوتر، أحكي له ما قرأته من معلومات عن النحس الذي يطارد مسرحية (صح النوم) منذ أن انتهى الأخوان رحباني منها عام 1970، في اليوم الثالث لعرضها مات عبد الناصر وماتت معه المسرحية، ومن يومها لم تعرض ولم يكتب لها الذيوع كغيرها من المسرحيات الرحبانية، برغم أنها واحدة من أنضج وأجرأ وأفضل ما كتبا ولحنا، زياد الرحباني قبل يومين كان يقول لصديقتنا ضحى شمس في حوار انفردت به في صحيفة السفير اللبنانية إنه اختار مسرحية (صح النوم) بالذات لكي يعيد عرضها لأن لديها «نقصا في المناعة الوطنية»، مفسرا جملته الساخرة الرائعة بأن أباه وعمه لم يكتبا في تلك المسرحية عن «جبال ماتنطال وطنطنات وطنية، بل كتبا عن الأحلام البسيطة للإنسان المقهور».

فتنتني سخريته الودودة من أبيه وعمه، لذلك هو زياد الرحباني. علاء لا يحبه كثيرا، يغريني صمت علاء بالمزيد من الرغي للهروب من قلقي وإحباطي، فأذكر له دون مراعاة لمشاعره كل ماأحفظه لزياد، ثم أبدأ على طريقة عمنا عمار الشريعي بتحليل لم يطلبه مني أحد لرائعته «أنا مش كافر.. بس الذل كافر والفقر كافر والجوع كافر.. أنا مش كافر لكن شو باعملك إذا اجتمعوا فيي كل الأشياء الكافرة». بمحض إرادتي أنقل مجرى الحديث إلى الطائفية التي تنضح في كلام أحد المحللين الذين يستضيفهم أمامنا برنامج في تلفزيون الإل بي سي المحسوب على القوات اللبنانية، أحكي لعلاء عن مقطع من مسرحية «شي فاشل» الرائعة لزياد الرحباني عندما يقول البطل للمؤلف: «لا شو بدك في كل رواية بتقول: كلنا إخوة.. إذا كلنا إخوة لا شو في لزوم بدك تقولها»، أقول له إنني لا أجد «زياد» الآن محقا في السخرية من اللبنانيين في مسرحيته «بخصوص الكرامة والشعب العنيد»، لم أر شعبا يتحول من الانقسام إلى الصمود في ساعات قلائل كما رأيت اللبنانيين اليوم.

شريط الأخبار يعلن عن قصف جديد لطريق بيروت دمشق، يذهب علاء الذي لا بُدّ قد فاض به الكيل من رغيي، ليسأل عن سر تأخر السيارة التي نتشارك معًا في دفع تكلفتها التي تبلغ خمسمائة دولار، كانت تُكلِّف بالأمس نصف هذا المبلغ، الآن تكلف أضعاف ما دفعناه هذا إذا وجدتها أساسا. يطلب من الشركة الاتصال بالسائق الذي يجيبهم بأن الطريق «عجقة» لأن عليها ضغطا بسبب أنها لم يتم ضربها بعد، كلمة «بعد» هذه كانت آخر ماينقصني الآن. يقترب مدير الفندق منا بملامح محبطة ومتجهمة ليقول لنا بأننا نعيش ظروفا استثنائية وأن علينا أن نتحمل لأن كل شيء استثنائي في هذه اللحظة، يهرب أحد موظفي الاستقبال من المحلل الناضح بالطائفية ليقلب على قناة أخرى، لكنه لا يحتمل رؤية جوليا بطرس بشعرها المنكوش زمان وهي تؤكد أن «اللي في وسط الضلوع أقوى من الدروع»، فيهرب إلى قناة أخرى يطرح فيها كاتب مستقل أسئلة مخيفة من وحي استهداف إسرائيل المتعمد لمحطات الكهرباء: «إذا انقطعت الكهرباء، فكيف سيقوم الناس بحفظ اللحوم والدواجن والمواد الغذائية؟ كم عدد الأطنان التي ستتلف من كل هذا في ثلاجات المتاجر والمخازن، وكيف سيتصرف المرضى والجرحى ومن قبلهم الأطباء في المستشفيات، وكيف سيتواصل الناس مع بعضهم البعض»؟


أسئلة الرجل البديهية جاءت كأنها مفاجآت لم يكن يتوقعها أحد، الكل حولي ينظر لبعضه لكي يتشارك الفزع من المصير الذي تحمله هذه الأسئلة، يعلنون خبر استشهاد عاملين مصريين آخرين في محطتي بنزين، فأتذكر عشرات العمال المصريين الذين شاهدتهم في محطات البنزين والمطاعم ونواصي الشوارع، آخرهم كان عامل النضافة في سينما كونكورد بالأمس، مدير السينما الذي كان غاضبا لاضطراره لإلغاء حفلة فيلم (قراصنة الكاريبي) الجزء الثاني لعدم إقبال الرواد، ناداه قائلا: «تعال يا مصري سلم على بلدياتك»، نظر إليَّ العامل منكسرا وهز رأسه وهرب بعينه من عيني محاولا الانشغال بتنظيف الأرض، لماذا تذكرته الآن؟ لا أدري، لماذا تذكرت الآن كل المصريين الذين قابلتهم في كل الدول التي سافرتها وقد تركوا حضن بلادهم الظالمة لهم، وتحكم فيهم اللي يسوا واللي مايسواش؟ ينقبض قلبي وأنا أتذكر الشباب الخمسة الذين قابلتهم قبل أسبوعين في مطار دمشق التي جاءوها قادمين من ليبيا، أتذكر وجوههم الضائعة الحزينة وهم يقفون عاجزين أمام غطرسة الضابط الذي يسألهم: «ليش جيتوا من ليبيا على هون؟»، لم يجدوا إجابة سوى «قالوا لنا إن سوريا مابتدخلش المصريين بفيزة». إنه الهروب، إذن، إلى أي مكان لايطلب فيزة حتى لو كان بلدا أفقر من مصر. لماذا تذكرت كل هذا الآن؟ بالتأكيد تذكرته فقط، لأن المهانة تستدعي المهانة.

يبدأ الحديث عن تهديد الطريق الذي سنسلكه بالقصف يتردد من أكثرمن محطة، أنظر أنا وزوجتي إلى بعضنا البعض، ثم نقرر أن نقاوم الخوف بوجبة غداء عامرة من مطعم الفندق هي وجبتنا الأخيرة فيه، ولعلها تكون الأخيرة في الحياة كلها، ولذلك كان لابد أن نأكلها بتقدير شديد لها ولأنفاس الحياة التي لازالت تتردد بين جنبات صدورنا، عامل المطعم اللبناني من الضاحية الجنوبية أيضا قال لنا وهو يصر على إظهار مرحله لكي يفتح «نفسنا» على الأكل إنه يتبع تكنيكا جديدا للتواصل مع أهله في الضاحية، رنة واحدة تعني وجود قصف على الضاحية لكنها تعني أيضا أنهم بخير، الرنة الطويلة تعني أن هناك كارثة تستدعي منه أن يرد لكي يتلقى استغاثتهم. نشعر بالخجل ونحن نأكل أمامه، وتتحول الأكلة التي كنا عزمنا على الاستمتاع بها إلى أكلة، لكن بنية «حشو الجوف» استعدادا لطريق لا نعرف له أول من آخر.

بعد الطعام أعود إلى اللوبي فأجد علاء يجلس مغمضا عينيه، بالتأكيد لكي يهرب من أي محاولة رغي قادمة، أجلس لأشغل نفسي بأي شيء سوى القلق، أتذكر أصدقائي في لبنان الذين لم أجد وقتا حتى لكي أقول لهم إنني وصلت لبنان، أغلبهم عرف ذلك بعد خروجي من لبنان عندما شاهدني في التلفزيون أتحدث عن تجربتي. لاأظنهم يلومونني، كيف كنت سأريهم وجهي وأنا أتركهم يواجهون المجهول، إذا احتملوا هم ذلك فلن أحتمل أنا، أغلب المثقفين منهم لديهم تجربة في التعايش مع الخطر، أتذكر زيارتي الماضية لبيروت في خضم حملة الاغتيالات الجبانة التي راح ضحيتها الكاتب الكبير سمير قصير والناشر الصحفي جبران تويني، أجلس على مقهى ستار بكس في الحمراء مع صديقي الكاتب الرائع يحيى جابر والإعلامي والشاعر زاهي وهبي والرسام المبدع حسن إدلبي، نضحك من قلوبنا على يحيى وهو يحكي لنا كيف يتجمع الجيران للفرجة عليه كل صباح وهو ذاهب إلى مكتبه وهو ينام على الأرض ويمسك بالمقشة ليدخلها أسفل سيارته محاولا البحث عن آثار عبوة ناسفة، لم تكن أم زاهي وهبي قد ماتت وقت زيارتي الأولى، بالأمس قرأت في الصحيفة تغطية لندوة عقدها زاهي لكي يعلن عن جائزة باسم والدته الراحلة للمتفوقين من الشباب، رحم الله والدتك يازاهي، لعلها ماتت في الوقت المناسب حاملة ما يكفي من حرقة القلب على لبنان، كم حربا شهدتها، وكم هما حملته، ها هي قد رحلت وتركت لك وللأحياء الموتى على سطح أرض لبنان عبء إكمال مسيرة الهموم والحروب.

يخرجني من أفكاري التي تزيدني هما على هم صوت علاء وهو يقول منفعلا لأخته: «يا ستي والله العظيم كويس.. أعمل إيه بس عشان تصدقي.. مستنيين السواق.. ما تخافيش.. أهم حاجة ما تقوليش لأمي أي حاجة». يغلق المكالمة ويعتذر لنا عن ارتفاع صوته، يقسم إنه لولا ضغوط أخته لما استعجل السفر في أوضاع مضطربة كهذه، خاصة أنه متأكد أن الأمور ستهدأ ـ كويس إنك سمعت كلام أختك يا علاء ـ يقول لنا إنه قال لأمه عندما اتصلت به مع بداية الأزمة لتطمئن عليه إنه الحمد لله لم يذهب إلى لبنان، وإنه بقي في لندن، «لو عرفت هتروح فيها»، يقول لنا ضاحكا إنه سيعتمد على دعاء أمهاتنا طيلة الرحلة، رسائل أمي تتوالى على هاتفي حاملة أدعية قديمة ومبتكرة لكي أرددها، رسالة منها أعقب الدعاء فيها جملة «يا عيني عليك يا ابني.. جت الحزينة تفرح مالقتلهاش مطرح»، من الصعب دائما أن تقنع أمي بمراعاة التوقيت، «لينا كلام بعدين يا ست الكل».

أصبحت الساعة الآن الرابعة مساء، ولايبدو أن السائق سيصل قريبا كما قيل لنا، بدأنا نبحث خيار عدم السفر إذا تأخر السائق عن الخامسة مساء، لأن السفر في الليل سيكون أمرا في غاية الخطورة، في هذه اللحظات يدخل علينا السائق، اسمه جورج، شكله لايدعو لأي طمأنينة، شعره الطويل المنكوش المسدل على كتفيه والنضارة الريبان السوداء ومضغة اللبان المستهينة والقميص المفتوح، صورة لابد أن تستدعي إلى ذهنك كل مابها من إكليشيهات للمظهر الخارجي لأفراد ميليشيات الحرب وعصابات الخطف، لكن هل هناك خيار آخر وسط هذا الخطف الجماعي لكل لبنان ومن عليه؟ ونحن ننتظر دخوله إلى الحمام أقول لزوجتي: «على الأقل منظره المريب أرحم من إننا نخرج من البحر في مراكب تحت حماية الإسرائيليين»، تجد أن الأمانة تقتضي إخباري بما قرأته عن وجود أخبار عن عصابات تقوم بخطف السياح العرب لتسليمهم إلى إسرائيل لكي تستخدمهم في الضغط من أجل إرجاع جندييها الأسيرين، أشكك في جدية الأخبار ثم أقول لها ملاطفا: «يعني ممكن تروح علينا نومة نصحى نلاقي نفسنا في إسرائيل مطلوبين للتبادل.. المشكلة بقى إن ما حدش في الحكومة المصرية هيبدلنا بقزازة شويبس».

فيما يقف السائق ليأخذ نقوده مقدما من إدارة الفندق، يبدو حريصا على رفع صوته وهو يحكي عن عذاب الرحلة التي قطعها أكثر من مرة خلال نفس اليوم، «البيل كابتن» يحمل حقائبنا إلى السيارة، أعطيه عشرة آلاف ليرة لبنانية مرة واحدة ليس كرما ولكن رغبة في التخلص من الليرات الباقية لديَّ، لا يبدو فرحا بها، بالتأكيد يسأل نفسه: كم ستشتري كيس خبز لأسرته في زمن الحرب؟ كل الوجوه تتحاشى النظر إلينا نحن الراحلين، لكي لا نرى ذلك الخليط من مشاعر الغضب والحزن وربما الحسد. هذه لم تعد بيروت التي نحبها، تماما كما أننا لم نعد نحن. على العين الآن أن تودع كل ما يقع نظرها عليه من بشر وحجر، فربما لا تراه مرة أخرى، أقول لنفسي: لو كان لديَّ كاميرا الآن لصورت كل شبر وكل بشر في لبنان لأحفظ للأجيال القادمة كيف كان قبل أن يصبح القتل جماعياً وبرعاية عربية ودولية؟ لكن إحنا في إيه ولا في إيه، تبدو الطرق الخارجة من بيروت والمتجهة إلى الطريق الذي سنسلكه خالية بل قل خاوية، فتزداد شكوكنا في السائق الذي كان منذ قليل يتحجج بعجقة السير، أحاول أن أظهر له أنني على علم بالطريق الذي سنسلكه، فأسأله عن أخبار الطريق، وهل صحيح أن هناك قصفا جويا وقع بالقرب من نقطة الحدود السورية التي سنذهب إليها؟ يجيبني أحقر إجابة في الدنيا، إجابة أحقر من الشتيمة القبيحة في ظروف كهذه: «هلأ راح تشوف بنفسك»، جاءت الإجابة إعلاناً من جهته لفرض حظر الكلام بيننا بعد أن لمس شكوكي جلية من كلامي المرتبك، يقوم بتشغيل الراديو على محطة اسمها لبنان الحر، لو كنت جاهلا بالواقع اللبناني لظننتها إذاعة إسرائيلية ناطقة بالعربية، لما تبثه من نشر للخوف بين الناس وتثبيط للهمم ولوم وقح لحزب الله على ما فعله في ظرف لم يعد يحتمل حتى اللوم المهذب.

نختم غداً بإذن الله
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.