درس جاهلي (6)

درس جاهلي (6)

07 يوليو 2019
+ الخط -
في صحيفة "جاهلية بوست"، ووصلًا لما سبق، نشر الأصفهاني صورة زنكوغرافية من خطاب سلمى الكنانية، وفيه قولها لعروة بين أهلها: "يا عروة! أما إني أقول فيك وإن فارقتك الحق، والله ما أعلم امرأة من العرب بنى بها بعل خيرًا منك، وأغض طرفًا، وأجود يدًا، ما مرَّ عليَّ يومٌ مذ كنت عندك إلا والموت كان فيه أحبَّ إليَّ من الحياة بين قومك، وكم خامرني الإباء كلما سمعت من قومك امرأة تقول (أمة عروة)؛ فوالله ما أنظر في وجه غطفانية أبدا. ووالله إنك لطويل العماد كثير الرماد، راضي الأهل والجناب؛ فارجع راشدًا إلى ولدك واحسن إليهم واستوصِ بهم خيرًا".

واستدرك أبو الفرج على نفسه خطأ وقع فيه؛ فقال في معرض سجاله مع مدير التحرير المنافح عن موقف الحكومة: "في مقال المنشور قبل أيام، قلتُ إن (عروة نزل على بني النضير، وكانت معه امرأته وهي من كنانة -والأرجح أنها غير زوجته سلمى الكنانية- فشرب الخمر حتى غاب عن الدنيا، وقد وقعت في نفوسهم فاستوهبوها منه؛ فوهبها لهم وأشهدوا عليه)، غير أني تثبت من مصادري الصحافية -والكلام للأصفهاني- فوجدت الأمر على خلاف ما ذكرت.

ولمزيد من الإيضاح، قال أبو الفرج "أخبرتني سلمى الكنانية أنها المقصودة، وأنها رتبت مع أهلها ليفتدوها من عروة، ولم تجد طريقةً سوى التوسل بمخاتلته وهو سكران"، وعليه يكون عروة بريئًا من إثم التفريط في عِرضه، ولم تفارقه سلمى لمثلبةٍ في نفسه أو أخلاقه، وفي حديثها ما يُغني عن الإطالة.


يواصل أبو الفرج: "ولا أشك في فطنة قارئ "جاهلية بوست"، وأثق أنه قرأ ديوان عروة ووقف على مداعباته سلمى، وخوفها عليه ومطالبتها له بالبقاء إلى جوارها، لكن شعور الغربة والإهانة بين قومه لم يتركا لها خيارًا. وتزوج من أخرى، وكان قد سباها أيضًا، واحتالت لنفسها هي الأخرى حتى لحقت بأهلها، لكنها لم تشهد له شهادة سلمى؛ فترك ذلك في نفسه غصة".

وانتقل أبو الفرج نقلة نوعية في قضية عروة، وأثار قضية الصعلكة وأجلى عنها الغبار؛ فكتب مقالًا عنوانه (لماذا يخافون الصعاليك؟)، وفيه: "إن زيادة أسعار الوقود خمس مرات، وارتفاع ثمن تذكرة المترو والنقل العام، ووصول سعر أنبوبة البوتاغاز إلى 60 جنيهًا، وتردي الوضع الاقتصادي للجنيه، والدين العام الذي قصم ظهر البلد، وحفلات الشخلعة في الأراضي الطيبة، وحفلات ماريا كاري والمغنية الإباحية نيكي ميج، ومؤتمر البحرين المشؤوم كلها دفعت الصعاليك للانتفاضة".

إن الصعلكة ليست فرعًا من فروع "داعش" يا سادة، ولا تدين لأبي بكر البغدادي، إنما الصعلكة نوعٌ من التمرد والصياعة، والصياعة أدب -مش هزَّ أكتاف- لا تقتضي أن يُسحل عروة ويُسجن، وإن كان الإعلام الموالي للحكومة -وعلى رأسه جريدة "تطبيل تايمز"- يشوِّه صورة عروة ويحقِّر من شأنه؛ فليسمح لي القارئ الكريم أن أفند أباطيلهم وأغاليطهم. ولتسأل الحكومة نفسها أولًا: لماذا ظهر عروة؟ وما بواعث ظهور الصعلكة؟

لقد رأى عروة الناس من حوله تترنح من هول ما يجتالها من مآزق، وانقسم الناس إلى فئتين، إحداهما أتخمها الشِّبْعُ فلم تفكر في الفقراء والمنكودين، وأخرى طحنها الجوع وشفَّها، يرق لحالها الحجر لكنما يتعامى عنها المترفون؛ فانقسم المعذبون في الأرض إلى خاملين خنعوا واستسلموا لما أريد بهم، وطائفة أخرى رفعت رأسها وقاومت الظلم الواقع عليها، ولا يرتضي عاقل لنفسه الذل والضَّعة والخِسَّة، وقاموا في إثر عروة يتقفون أثره وينتهجون منهجه. إن عروة بن الورد كما الأستاذ فريد شوقي في جعلوني مجرمًا، وليس مجرمًا بطبعه، إن حال عروة حال الأستاذ كريم عبد العزيز في خارج على القانون!

لا أستغرب الثقافة الجامعة لأبي الفرج الأصفهاني، وقد أدرك الزمن الجميل للسينما المصرية، وحبَّب الناس في شخص عروة بهذا التقريب السهل الممتنع، لكنه لم يقف عند هذا الحد، بل واصل يقول: "تخاذلت فئة من معدومي الدخل، لم تطالب بالعيش والحرية والكرامة الاجتماعية، لكن عروة رفض أن يكون على شاكلتهم؛ فامتطى فرسه القرمل وخرج يبحث عن قوت من يكفلهم، ولم يتحرك بدافعٍ من بطنه بل بوازعٍ من ضميره وواجبه الاجتماعي".

وتساءل الأصفهاني: هل كنز عروة أموالًا؟ هل هرَّب مقدرات القبيلة إلى سويسرا؟ إن كانت لديكم معلومات أو بيانات لأرصدته فوافونا بها، وسنطالب قبلكم بمحاسبته. لقد استنبط عروة أن المال ميزان الرجال؛ فمن يملك قرشًا يساوي قرشًا، ومن يملك دولارات تُخلع عليه الألقاب الجليلة والكرامات الكبيرة، ولذلك يقول (خاطر بنفسك كي تصيب غنيمةً/ إنَّ القعود مع العيالِ قبيحُ/ المالُ فيه تجلَّةٌ ومهابةٌ/ والفقرُ فيه مذلةٌ وفُضُوحُ).

لقد هاجم عروة بعض الأغنياء وعلية القوم؛ ليسد رمق المحتاجين، يمكننا عده في اللصوص الشرفاء إلى جوار الأستاذين الكبيرين أحمد مظهر وعادل إمام، وكذلك روبين هود وأدهم الشرقاوي وآرسين لوبين وغيرهم، لم يسطوا على أهل المروءة وإنما هاجموا أهل الاستغلال والجشع؛ فكان عروة بحقٍ أمير البؤساء، ورئيس دولة الصعاليك، عقدوا له لواء الزعامة حتى قالوا عروة الصعاليك؛ فجمعوا فلسفة الصعلكة في عروة، كما قال بعض النقاد "القصة القصيرة سومرست موم، وسومرست موم القصة القصيرة"؛ فتلازما تلازمًا لا فصل فيه.

استهدفت غارات عروة البخلاء، لم تستهدف الأبرياء فهو ليس لواء متقاعد يقصف المغلوبين على أمرهم، بل قائد شجاع ينافح عن حقوقهم المهضومة، ولكم في "أصحاب الكنيف" المثل على شهامته، وفي تعاملهم الرخيص معه لاحقًا ما ينم على الأنفس الخانعة، تتشوَّف إلى اللقمة ولا تسعى لاقتناصها؛ فإن ملأت بطونها لم تعرف من يساعدها ممن يلهب ظهورها بسياطه!

وفي المحكمة، المشهد مهيب في كل تفاصيله؛ فالأمن يحيط المحكمة بسياجٍ محكم من الكتل البشرية والإسمنتية والمدرعات والعربات المصفحة، وفي قاعة العدالة لا موضع لقدم؛ فالجميع حريص أن يتابع من كثب محاكمة فيلسوف الصعاليك، إنها بحق محاكمة القرن وليست محاكمة مبارك. تترصد العيون الرجل الذي نودي "يا أبا الصعاليك" فانتخى لهم ونحر الجزر، ويراه بعض الأكابر أعلى كعبًا من حاتم الطائي، ومن هؤلاء عبد الملك بن مروان المؤسس الحقيقي لدولة بني مروان، الامتداد الثاني لدولة الأمويين.

ووقف المحامي يهدر صوته ويشير براحة يده إلى عروة: سيدي القاضي! إن هذا الرجل الذي هو بحق اسم على مسمى؛ فاسم عروة يعني الأسد، وكنيته بين الناس تتعدد بتعدد مآثره؛ فهو أبو الصعاليك، وأبو نجدة، وأبو المغلَّس، وأبو عيلة، وأبو هراسة كما أخبرني صاحب سمط اللآلي. لم يتخذ الصعلكة مهنة يقتات منها، ولم يمارس الصعلكة بكامل مفهومها، واسمح لي سيدي القاضي أن أفرِّق بين صعلكة عروة وصعلكة غيره؛ فإن الفرق يفيدنا في سياق محاكمته بدرجة كبيرة.

إن الصعلوك رجلٌ طردته قبيلته وتبرأت منه؛ فلم يجد لنفسه ملجأ إلا في الإغارة والسلب والنهب، وترويع الآمنين والإرهاب والتطرف والغلو، ومن هؤلاء السليك بن سلكة وتأبط شرًا وهشام عشماوي، وهذه الفرقة مالت عن السبيل الذي اختطه عروة للصعلكة؛ فإن بني عبس لم يطردوا عروة ولم يتبرأ من نسبهم، لكنه قرر أن يساعد المعدومين كما فعل مع أصحاب الكنيف، ولذلك لا يحق لنا أن نضع عروة في كفة واحدة مع الدواعش والمتطرفين.

وبينما يستأنف المحامي مرافعته، كان عروة يدور بعينيه في الحاضرين، ورأى بينهم الشنفرى الصعلوك واضع لامية العرب -دستور الصعاليك- والصعاليك الجدد ومن بينهم صلاح عبد الصبور، أحمد عبد المعطي حجازي، نجيب سرور، أمل دنقل، مصطفى وهبي التل، محمد شكري، عبد القادر العزاوي وحسين مردان، وكلهم ينظر بعين الفخر والإعزاز لجدهم الصعلوك الأكبر، الذي بادلهم النظرة ذاتها وهو يتمتم (ولله صعلوكٌ صحيفةُ وجهه/ كضوء شهابِ القابسِ المتنوِّرِ).

من بين كل هؤلاء، تغير وجه عروة لما وقع على الصعلوكين عبد الأمير الحصيري وعبد الحميد الديب، وقد شعرا أنهما لم يفهما فلسفته في الصعلكة، وكانا قد أسرفا على أنفسهما في معاقرة الخمر، وقضيا على حال يرق لها قلب الحكام العرب، ووجد في الرجلين مثالًا للصعلوك الخامل، وقد عاش عمره يذم هذا الصعلوك كقوله (لحى الله صعلوكًا إذا جنَّ ليله/ مشى بين المُشاش آلفًا كلَّ مجزر).

وعاد صوت المحامي مرة أخرى، وهو يقول إن عروة سيدي القاضي لم يمدح أحدًا لعزة نفسه وأنفته، ولم يتحدث عن نفسه على عكس الشنفرى، إن عروة خصص وقته لقضية اجتماعية، إنه بمثابة أول وزارة تضامن في الجاهلية، رأى المال سبيلًا ووسيلة ولم يتخذه هوى وإلهًا يُعبد، وأنهى المحامي مرافعته بعد مجاهدة طويلة مع ممثل الادعاء، ورُفعت الجلسة للمداولة.

دلالات