أصبحت العاقل الوحيد!

أصبحت العاقل الوحيد!

07 يوليو 2019
+ الخط -
"ما المخرج من هذه الوكسة".. قالها ضارباً بكف يده أطراف المكتب وهو يقلب أوراق الملفات، لعل هذه اللكمة العنترية تزيح عنه بعض ما يحمله من مسؤوليات تراكمت عليه وهو في أيامه الأولى بمنصبه الجديد في الشؤون الإدارية بإحدى المصالح الحكومية، بعدما ترقبه الموظفون بنظرات غطاها اللوم وأخرى تميل للتعجب لما جرى وما سيجرى إذا سمع المدير الأُبهة هذه الضجة التي دوت في مكتبه، لكن في صمت الأفعال وعدم الانفعال لأي شيء يحدث.. أكملوا كلهم ما في أيديهم.

الأستاذ سعداوي الذي لم يكن أبداً اسماً على مسماه، لم ينل من السعد أي نصيب بهذه الدنيا منذ أن تخرج من كلية الآداب وبدأ الدق على طبلة الكفاح والرقص في دروب الحياة متحزماً بأطواق الصبر وطول البال، بعدما وضع شهادة التخرج في مكانها الصحيح بالإطار الخشبي معلقة على الحائط، يسعى لأن ينهي ما تأخر من الملفات لكي يتخلص من الروتين اليومي استعداداً لزيارة الوزير للمصلحة الحكومية غدا، ومتابعة العمل في كل شاردة وواردة.


"أيوا يا فندم، حضرته هيوصل على الساعة 11. أكيد يا فندم طبعاً كل شيء سيكون كما اتفقنا".. قالها سمير العايق نائب المدير وهو يهذب شاربه ويضبط إيقاع بذلته متأهباً للخروج من المصلحة وترك الدنيا وما فيها فوق رأس من هو أصغر منزلة من الموظفين والفراشين قائلاً لهم بنبرة تتسم بالعنجهية والزهو:

"يا خميس لازم وضروري تكون هنا ومعاك شوية الحلانجتية بتوعك تمسكوا المكتب من أوله لآخره تنضيف قبل ما سعادة البيه يشرفنا".. لم يتبق في المكتب غير الأستاذ سعداوي بعدما تركه خميس الفراش لكي ينهي الملفات التي تأخر جردها بسبب كسل مدبولي الونش موظف الشؤون الإدارية، قبل الأستاذ سعداوي فظل عاكفاً ساهراً آملاً أن يُنجز ما تبقى من الأوراق قبل أن يأتيه الموعد المرتقب..

لم يداعبه النوم بعد أطنان القهوة التي قاربت أن تقضي عليه، حتى جاءت السابعة صباحا ولم يوجد أي من الموظفين في المصلحة، وفجأة يدخل عليه رجل بسترة سوداء تشابه لون نظارته التي سترت عينيه وراءها ترسم ملامحه رجلاً على مشارف نفق الأربعين من عمره.

صادفته الرائحة العطنة والأوراق الملقاة على الأرض والمكاتب التي دهنت بطبقة جديدة من زيت الفلافل والكراسي المقلوبة التي تعرقل من يروح ويأتي.. دخل ممتعضاً يرنو ببؤسه في أطياف المكان، ثم قال للأستاذ سعداوي:

"هو المدير بيشرف الساعة كام؟!"
- ياااه يا بيه، بدري على الكلام دا، حضرته بيشرف بعد تلت أو أربع ساعات.
"طيب والموظفين؟.. لاحظت إن مفيش غيرك..".
- هههه شكل حضرتك أول مره تنورنا، بيوصلوا قبل البيه الكبير بنص ساعة يثبتوا حضورهم.
"وانت كلفت نفسك وجيت في معاد الشغل بالتحديد ليه؟"
- سهران للصبح يا بيه بخلص شغل متأخر لأن سيادة الوزير هيشرفنا.

ثم تابعه في الحوار متعجباً.. منصتاً لكل ما يقوله الأستاذ سعداوي، عما يحصل في المصلحة، حتى جاءت الساعة العاشرة، وبعدها قال:

"دلوقت تقدر تتفضل، المدير وصل.. أقوله مين؟!".
- قل له الأستاذ عبد الرحيم دهشان الوزير..

بدا العرق يشق طريقه في جبين الأستاذ سعداوي ونالت الرعشة من يده وهو يرتجف فاتحاً باب المدير لكي يعلمه بمن في انتظاره..

ارتفعت نبرة المدير وهو يصيح في سعداوي ثم ركل الكرسي قائلاً: "ما المخرج من هذه الوكسة..!؟".

دخل دهشان الوزير واستراح في قعدته من الصباح وأغلق الأستاذ سعداوي عليهما الباب، وبعدما مرت دقائق ارتفع الصوت مرة أخرى بنبرة المدير وهو يتحدث في التليفون: "الووو.. مكتب الوزير؟.. في شخص بيدعى إنه الوزير وقدمني للتحقيق..".

ثم ضرب الهاتف بالمكتب قائلاً: "ولما الوزير ألغى زيارته للمصلحة انهاردة، أنت تكون مين؟!".
A03D0CDD-E864-4548-B17D-EBCC894B1E58
محمود أبو عبية

طبيب وشاعر وكاتب قصص قصيرة ومقالات متنوعة فى الفلسفة والتاريخ والأدب الساخر.. ابن الحارة المصرية وعابر سبيل فى دنيا الله.