عن السوريين في تركيا

عن السوريين في تركيا

31 يوليو 2019
+ الخط -
في إحدى مجموعات "فيسبوك" التركية التي تعنى بأبحاث الهجرة، يستميت نشطاء أتراك معظمهم يساريون في محاولة الدفاع عن اللاجئين السوريين في تركيا ولو على مستوى العمل البحثي المجرد، يشاركون أخبار حملات الترحيل الأخيرة، يستشيرون بعضهم البعض حول إمكانية إيجاد ثغرات قانونية قد تساعد في مواجهة تلك الحملات، ويبذلون وسعهم بحسب إمكانياتهم البسيطة في نشر ثقافة احترام حقوق الإنسان وحماية اللاجئين.

كل أولئك النشطاء هم مواطنون أتراك يحملون جنسية الدولة التركية ويحبون بلادهم، لكنهم لا يجدون حرجاً في مخالفة التيار الجارف في مجتمعهم والمعبأ ضد السوريين لدرجة الطرب لدى سماع أخبار طردهم من البلاد، بل ينتقدون سياسات حكومتهم ويقترحون بدائل من شأنها حسب وجهة نظرهم أن تحسن من أحوال أولئك الهاربين من جحيم الأرض.

في المقابل يصر العديد ممن يمكن أن يقال إنهم "نخب سوريّة" على تبني نظرية "شارب النرجيلة" التي اخترعها عقلٌ تركيٌ ما فأصبحت تماماً كالمنعكس الشرطي في استجابة غالبية كبيرة لأي حديث يتناول السوريين.

ونظرية "شارب النرجيلة" لمن لا يعرفها هي النظرية التي أصبحت تعرّف اللاجئ السوري

في العقل الجمعي التركي، فكل سوري بالضرورة هو ذلك الشاب الذي التقطت صورته متكئاً يدير ظهره للعالم ويشرب النرجيلة وهو بالضرورة خائن للوطن وهارب من المعركة ليتسكع في جنة الأرض ويتحرش بحورياتها -زعموا-.

شخصياً أرى أن الصورة التي لا يعرف صاحبها ولا زمن التقاطها بالتحديد تصلح لأن تكون تعبيراً عن موقف رمزي يحق للإنسان السوري أن يتخذه تجاه هذا الكوكب، فبعيداً عن أي مبالغة أو اتهام بالسوداوية، فإن السوري الجيد في نظر العالم اليوم هو إما ذلك المقتول الذي يتم الحزن لدى مشاهدة صورته بشكل عابر لدقائق من البقية التي لا تزال تتعاطف مع السوريين، أو أخوه الصابر تحت سلطة بسطار الأسد أو رحمة "براميله" والمرشح لأن يصبح مقتولاً في أي لحظة. ولذلك فإن كنت لا تستحق الحياة بنظر هذا العالم فأنت تستحق على الأقل أن تدير له ظهرك وتشرب "النرجيلة" هازئاً بكل شيء ريثما تموت. 

بالعودة إلى واقعنا السوري الأليم تسود نسخة معدلة من متلازمة استوكهولم في أوساط جمع كبير من سياسيينا و"مشايخنا" ومثقفينا وتجارنا المقيمين في تركيا، ولأن هؤلاء من يطلق عليهم عادة في أي مجتمع بأنهم "نخب" فنحن مجبرون على أن نصفهم بذات الوصف وهم مجبرون أيضاً على تحمل مسؤولية "نخبويتهم" إذا صح التعبير.

وحتى لا أقع في التعميم، سأستخدم هنا بنفس الطريقة مصطلح الشهيد عبد الباسط الساروت عند انتقاده لقادة الفصائل بقوله "إلا من رحم ربي".

تلك النخب سواء في مجالسها الخاصة أو العامة، تتبنى الخطاب القائل بأن السوريين أنفسهم هم المسؤولون عن تلك الصورة النمطية السلبية التي رسمها الخيال التركي، يلومون جيلاً من الشباب السوري لم يعرف الحياة في ظروف طبيعية والذي تصدر عنه بالفعل سلوكيات خاطئة يتم تضخيمها في الإعلام التركي ليعير بها شعباً كاملاً.

طبعاً نحن نتحدث هنا عن تفاصيل وتصرفات تافهة قد تصدر عن أفراد ينتمون لأي شعب، نتحدث عن مشاجرات بين سوريين ولكنها تحدث في أي مجتمع، عن جرائم يرتكبها سوريون في تركيا لكن بمعدلات أقرت وزارة الداخلية التركية بعظمة لسانها أنها أقل من نظيرتها في المجتمع التركي، عن فتية يتحدثون بصوت عالٍ في وسائل النقل تستخدم دليلاً على أن السوريين بلا تربية، عن أطفال يتسولون لكسب لقمة العيش وليس لأنهم ملوا من اللعب مع أقرانهم في المدارس النظيفة، نتحدث عن حوادث طبيعية يرتكبها بعض السوريين فتقول لهم نخبهم في استجابة للحدث "يا غريب كن أديب".

نعم ورغم أن الاستجابة بدون أي مبالغة هي بذات السطحية، فسنحاول تفكيك سلوك تلك النخب لكيلا نقع في السطحية ذاتها ولأن الوضع حقيقة أصبح خطراً في مجتمع محتقن أصلاً وقد ينفجر في أي لحظة على نفسه وعلى السوريين.

 من السهولة بمكان ملاحظة أن الطبقة السياسية السورية المقيمة في تركيا والموصوفة بالمعارضة تماهت بصمتها التام مع كل حملات الكراهية التي شنت ضد السوريين ثم مهدت اليوم للإجراءات المؤلمة بحقهم. طبعاً نحن لا نحلم هنا بموقف يبدي "قلقه" من تلك الإجراءات لأنه قد يغضب المستضيف الذي تعود على كلمة "آمنا"، وإنما نفترض فقط أن هذه الطبقة كان يجب أن تطور خلال سنوات وجودها على التراب التركي خطاباً بلغة أبناء البلاد يشرح حقيقة الحرب السورية وأسباب اللجوء بعيداً عن أسطورة "المهاجرين والأنصار". خطاباً يشرح للرأي العام التركي المعروف بتعصبه لوطنه أن المعركة ضد نظام الأسد هي معركة تركيا الكبرى لأنها حرب ضد النظام المؤسس والداعم للتنظيم الذي أراق دماء عشرات الآلاف من المواطنين الأتراك فينتج عن ذلك أن هؤلاء السوريين الذين تتهمونهم بالجبن والخيانة - أيها الإخوة الأتراك - يقاتلون لوحدهم ومنذ ما يقارب التسعة أعوام عدوكم الأكبر. 

أما الطبقة "المشيخية" المتمركزة في تركيا، فينخرط العديد من أفرادها في نشاطات يمكن وصفها بالكوميدية في ضوء فداحة الأحداث، انخراط في مشاريع "تحقيق" مؤلفات تتحدث عن أمجاد الدولة العثمانية التي يشتمها ثلث الشعب التركي - على الأقل - ويتهمها بالرجعية، مشاريع تعليمية "فاشلة" ومناطقية، تجمعات لتزويج الأرامل، أو انعزال عن الواقع والتذرع بأن السوريين لا يصغون لأحد ولا يحترمون أي شخصية تهدف إلى توعيتهم.

وبالحديث عن توعية السوريين - وسنتجاوز الحديث عن طبقة التجار والمثقفين لأن التجار السوريين بأغلبيتهم حافظوا على طباعهم في سلوك الخلاص الفردي والتماشي مع أي سلطة أما المثقفون فمن المضحك للأسف الحديث اليوم عن مصطلح مثقف سوري – فإن استحالة القيام بتلك التوعية كانت الحجة الكبرى لخروج الآلاف من المشايخ والسياسيين من سورية بذريعة أن القوى العسكرية المسيطرة على المحرر تمنع أي شخصية دينية أو سياسية لا تتوافق مع توجهاتها من ممارسة أي دور توعوي فضلاً عن إمكانية استهداف تلك الشخصيات وتصفيتها.

تحمل هذه الحجة الكثير من المصداقية في ظل سيطرة فصائل مسلحة تختلف باستبدادها عن نظام الأسد بالكم والكيف فقط وبسبب تفاوت القوة وآلات القتل والقمع ليس إلا، ولكن هذه الحجة تسقط في تركيا التي يستطيع فيها "المشايخ" والسياسيون إن أرادوا التواصل بحرية مع مواطنيهم "قليلي الأدب".

 كان - وما زال – بإمكان هذه الشخصيات السعي للاجتماع بالسوريين في مختلف المناطق التركية وعقد علاقة تحالف معهم ولو بهدف المصلحة البحتة تقنع هؤلاء المساكين المشتتين بأن توحدهم خلف تلك النخب من شأنه حل إشكالياتهم العالقة فيما يتمتع "الشيخ" أو "السياسي" بظهر يقويه أمام صانع القرار التركي الذي يلهث عابثاً في محاولة البحث عن قيادات حقيقية للسوريين ليتحدث إليها. 

في ظل ظروف كهذه، ومع مئات الآلاف من اللاجئين الحالمين بوثيقة تمنحهم "رقم هوية غريب" ليتم الاعتراف بهم وبأطفالهم بشراً يستحقون الحياة ولو في أصعب الشروط، ومستعدون لتطويب أي جهة سورية تستطيع التواصل مع الدولة التركية باحتراف لحل مشاكلهم، تلك الدولة التي رسخ في ذاكرتها البيروقراطية منذ أيام الرئيس الراحل تورغوت أوزال أن المعارضة والنخب السورية لا أمل في توحدها حتى يلج الجمل في سم الخياط، تصر تلك النخب على تبني خطاب أكثر أجنحة الوسط السياسي التركي تطرفاً ضد السوريين، أجنحة تشيطن السوريين وتتهم كل فرد منهم بأنه مشروع قاتل أو لص أو مغتصب نساء، أجنحة يسهل عند استعراض أسماء أبرز وجوهها وخلفياتهم معرفة أن اصطفافهم المذهبي والسياسي مع بشار الأسد هو الدافع الرئيسي وراء حملات الكراهية والحقد الموجهة والتي أشعلوها طيلة ثماني سنوات ضد السوريين.

تصرّ نخبنا على أن "تستترك" وتكون ملكية أكثر من الملك، وبدلاً من أن تعمل بشكل جدي على نيل شرف محاولة النهوض بالمسؤولية تجاه أجيال تائهة من السوريين فإنها ترمي بعجزها أو فسادها عليهم أو تطمئنهم بالوعود الكاذبة.

FBFC7B8C-CEE9-496B-BACF-FB73D1B87B75
إسماعيل حاج إسماعيل

خريج كلية الصيدلة جامعة حمص. مقيم في تركيا. مهتم بالشأن السوري والتركي