حدثنا عن الملوك يا بَيدبا

حدثنا عن الملوك يا بَيدبا

03 يوليو 2019
+ الخط -

"إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلة وكذلك يفعلون".
لما انصرف الإسكندر المقدوني عن الهند، ملَّك عليهم رجلاً من ثقاته، فلما بَعُد عن الهند بجيوشه، تغير الهنود عما كانوا عليه من طاعة الرجل.. وقالوا: ليس يصلح للسياسة، ولا ترضى الخاصة والعامة أن يُملكوا عليهم رجلاً ليس هو منهم ولا من أهل بيوتهم، فإنه يستذلهم ويحتقرهم.

واجتمعوا يملّكون عليهم رجلاً من أولاد ملوكهم، فملكوا عليهم ملكاً يقال له دَبشليم وخلعوا الرجل الذي كان خلَّفه عليهم الإسكندر. وحين استوسق دَبشليم الأمر واستقر له الملك، طغى وبغى وتجبّر وتكبّر، وجعل يغزو مَن حوله من الملوك، وكان مع ذلك مُؤيداً مظفراً منصوراً فهابته الرعية. فلما رأى ما هو عليه من الملك والسطوة عبث بالرعية واستصغر أمرهم، وأساء السيرة فيهم، وكان لا يرتقي حاله إلا ازداد عتواً. فمكث على ذلك برهة من دهره.

وكان في زمانه رجل فيلسوف، فاضل حكيم، يُعرف بفضله ويُرجع في الأمر إلى قوله، يُقال له: بَيدبا. فلما رأى الملك وما هو عليه من الظلم للرعية فكر في وجه الحيلة في صرفه عما هو عليه، ورده إلى العدل والإنصاف. فجمع لذلك تلامذته وقال:


أتعلمون ما أريد أن أشاوركم فيه. اعلموا أني أطلتُ الفكرة في دَبشليم وما هو عليه من الخروج عن العدل، ولزوم الشر، ورداءة السيرة، وسوء العشرة مع الرعية. ونحن ما نُروض أنفسنا لمثل هذه الأمور إذا ظهرت من المُلوك إلا لنردهم إلى فعل الخير ولزوم العدل. ومتى أغفلنا ذلك وأهملناه لزمنا من وقوع المكروه بنا، وبلوغ المحذورات إلينا أن كنا في أنفس الجُهال أجهل منهم. وليس الرأي عندي الجلاء عن الوطن، ولا يسعنا في حكمتنا إبقاؤه على ما هو عليه من سوء السيرة، وقبح الطريقة، ولا يمكننا مجاهدته بغير ألسنتنا، ولو ذهبنا إلى أن نستعين بغيرنا لم تتهيأ لنا مُعاندته، وإن أحس منا بمخالفته، وإنكارنا سوء سيرته كان في ذلك هلاكنا. فليشر كل واحد منكم بما يسنح له من الرأي.

فقالوا بأجمعهم: أيها الفيلسوف، أنت المقدم فينا والفاضل علينا، وما عسى أن يكون مبلغ رأينا عند رأيك وفهمنا عند فهمك، غير أننا نعلم أن السباحة في الماء مع التمساح هلكة، والذنب فيه لمن دخل عليه في موضعه، والذي يستخرج السُّم من ناب الحية فيبتلعه ليجربه على نفسه فليس الذنب للحية. ومن دخل على الأسد في غابته لم يأمن وثبته. وهذا الملك لم تفزعه النوائب، ولم تؤدبه التجارب، ولسنا نأمن عليك من غضبه ومبادرته بسوء إذا لقيته بغير ما يُحب.

فقال بَيدبا: قد سمعت مقالكم وتبيّن لي نصيحتكم؛ غير أني قد رأيت رأياً وعزمتُ عزماً.

ثمَّ إن بَيدبا اختار يوماً للدخول على الملك، فأذن له، فدخل ووقف بين يديه.

فقال الملك: إن كان للملوك فضل في مملكتها فإن للحكماء فضلاً في حكمتها أعظم، لأن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعلم، وليس الملوك بأغنياء عن الحكماء بالمال، وقد وجدت العلم والحياء إلفين متآلفين لا يفترقان، متى فُقد أحدهما لم يوجد الآخر، فإن كان دخولك علينا في أمر من أمور الرعية تقصد فيه أن أصرف عنايتي إليهم نظرت ما هو، فإن الحكماء لا يُشيرون إلا بالخير، وقد فسحتُ لك في الكلام.

فلما سمع بَيدبا ذلك من الملك زال عنه خوفه، وسكن ما كان وقع في نفسه من رهبة الموقف، وقال: الأمر الذي دعاني إلى الدخول على الملك، وحملني على المخاطرة في كلامه، والإقدام عليه نصيحة اختصصته بها، فإن فسح في كلامي ووعاه عني فهو حقيق بذلك، وإن هو ألقاه فقد بلغت ما يلزمني، وخرجت من لوم يلحقني.

فقال الملك: يا بَيدبا تكلم ما شئت فإني مُصغٍ إليك مقبل عليك وسامع منك حتى أستفرغ ما عندك إلى آخره.

يعلم بَيدبا أن السكوت عند الملوك أحسن من الهذر الذي لا يرجع منه إلى نفع لأن مقتل المرء بين فكيه. لذلك اختار من القول أحسنه وتلطف في موعظته إلى أن قال:
يأيها الملك لقد ملكت البلاد وأهلها، وقد ورثت أرضنا وديارنا وأموالنا ومنازلنا التي كانت عدتنا، فأقمت فيما خولناك من أمرنا، لكنك لم تقم في ذلك بحق ما يجب عليك بل طغيت وبغيت وعتوت وعلوت على الرعية، وأسأت السيرة، وعظُمت منك البلية، وحدت عن نهج أسلافك من الملوك قبلك.

أيها الملك إن الجاهل المغتر من استعمل في أموره البطر، والحازم اللبيب من ساس المُلك بالمداراة والرفق. فانظر أيها الملك فيما ألقيت إليك، ولا يثقلن ذلك عليك، فلم أتكلم بهذا ابتغاء غرض تُجازيني به، ولا التماس معروف تسوقه إلي، ولكني أتيتك ناصحاً مشفقاً عليك.

فلما فرغ بَيدبا من مقالته غضب الملك. وغضب الملوك لا تُحمد عُقباه، فهم يمارسون سلوكاً عنيفاً يصل إلى حد الغضب المستعر وممارسة الانتقام والتصفية الدموية الفعلية للعامة حين يتطاولون ويتجرأون على هيبة الملك. تلك الهيبة التي أسست على القوة والقمع والاستبداد والخوف ولم تبن على تعاقد اجتماعي ورضى وقبول وتبادل للحقوق والواجبات بين الراعي والرعية. فكيف بمن يتجرأ على السلطان في مجلسه؟

لقد أتيت بفعل منكر يا بَيدبا. ثم أمر به أن يُقتل ويُصلب فلما مضوا به، فكر الملك فيما أمر به فأحجم عنه ثم أمر بحبسه وتقييده. فلما حُبس أنفذ الملك في طلب تلامذته ومن كان يجتمع إليه فهربوا في البلاد واعتصموا بجزائر البحار.

فمكث بَيدبا في محبسه أياماً لا يسأل الملك عنه ولا يلتفت إليه ولا يجسر أحد أن يذكره عنده. حتى كانت ليلة من الليالي سهد الملك وطال سهده، فذكر عند ذلك بَيدبا الفيلسوف الذي خُلق لمثل تلك الأوقات، وأيقن أنه أساء التقدير في ساعة غضب وكافأه بخلاف ما يستوجب. ثم أمر بقيوده فحُلت، وتلقاه بالقبول، وطلب من بَيدبا تأليف كتاب ليكون دستوراً للبلاد وميزان عدل بين الراعي والرعية.

دلالات

عبد الرزاق دحنون
عبد الرزاق دحنون
كاتب سوري.. بدأ الكتابة عام 1980 في مجلة الهدف التي أسسها غسان كنفاني.