الأدباء والخطابة (1)

الأدباء والخطابة (1)

03 يوليو 2019
+ الخط -
جلست إلى أستاذنا يحيى حقي في مقهى ريش، وأخذنا الحديث إلى عالم الخطابة، وإذا بأحدهم يتأسف على زمن الخطباء المؤثرين، ولم نعد نسمع إلا صراخًا في صراخ؛ فلا رسالة واضحة ولا فكرة يدور الخطيب في فلكها، وكان صاحبنا يريد أن يواصل حديثه، لكنه كان ألمعيًا، إذ ألجم لسانه حين رأى حقي يمط شفتيه، وكأنه طلب الميكروفون لإلقاء كلمته، وابتعلنا الصمت انتظارًا لمداخلة صاحب القنديل.

وقال يحيى حقي لقد حرصت على متابعة الخطباء المصاقع؛ فاستمعت في الأزهر عقب الثورة إلى "أبو شادي"، و"أبو العيون"، و"شكري كرشة"، وغيرهم من كبار الخطباء، نهايته، كانت أياماً جميلة! ثم استدرك فقال "وبعد جولة واسعة، اكتشفت الشيخ رفعت في درب الجماميز، والشيخ توفيق في جامع ابن طولون، وعرفت الخطباء الذين يقرأون من الكتب أو الورق، والخطباء الذين يكرون الخطبة أداءً لواجبٍ بغير إحساس".

وبعد سكتة خفيفة، رشف خلالها ما تبقى من قهوته، واصل حقي ليقول "كما أن عندي ضيقاً شديداً بخطباء كانوا كأنما لا يحلو لهم إلا تقريعنا وسبنا وشتمنا، والكلام موجه إلينا.. لقد ضاع الإسلام لأنكم أهملتم الصلاة (ألم نأتِ للصلاة!)، ونسيتم الزكاة (وأغلب الحاضرين من الفقراء المستحقين للزكاة)، لماذا انطوت قلوبكم على المعاصي والإثم؟! إن جهنم لكم بالمرصاد!".


والتفت إليَّ ثم جال بطرفه في وجوه الحاضرين قائلًا: "يا أخي! لقد جئنا للمسجد طاعةً لله سبحانه، وطمعًا في رحمته ورضوانه، أناسٌ كثيرون غيرنا لم يأتوا للصلاة، ولا نريد منك كلمة شكر، بل - على الأقل - اعفنا من السب". ضحك البعض وتأسف آخرون، ومال أحدهم بجذعه معرِّضًا بتجديد الخطاب الديني؛ فقال يا أستاذ يحيى! أنت لم تسمع مختار ولا الجندي ولا شاهين، لكن إذا كان هذا حال خطباء القاهرة؛ فلماذا أنت ناقمٌ على خطيب منفلوط؟!

ضحك صاحب القنديل طويلًا، ومال برأسه للوراء يتوسل تنشيط ذاكرته، وسألناه عن قصة خطيب منفلوط؛ فأجابنا: كنت في بعض قرى منفلوط يوم جمعة، وتعرفون أني عملت في منفلوط سنتين، من أجمل أيام عمري، وليس هذا وقت الحديث عنها، ولست أميل للاستطراد كما يفعل الجاحظ وعبد القادر المازني، لذلك سأدخل في الموضوع مباشرة. لما حضرت الصلاة، جلسنا نستمع للخطبة؛ فإذا بالخطيب يقرأ علينا خطبة وفاء النيل!

بسلامته يقرأ من كتابٍ به نص لاثنتين وخمسين خطبة، موزعة على عدد أسابيع السنة، وفيها خطبة خصيصًا لجمعة وفاء النيل! ومضى يقرؤها علينا، وهي إشادة بالنيل ووفائه، ومجيئه لأرض مصر بالخير والخصب والبركات، لكم أن تتخيلوا أنه يصل إلى أسماعنا صراخ النسوة في القرية باكيات محاصيلهن التالفة، وجاموسهن الغارق، ونكبتهن الكبرى بفيضان النيل ذلك العام، وقد اكتسح القرية وأكل جسورها وأكل أرضها وأتلف محاصيلها وهدم بيوتها وزرائبها.. والخطيب ماضٍ في خطبته والناس أمامه مطأطئون الرؤوس مدفوسة بين ركبهم.. إن كان قلبي قد رق لهم؛ فقد رق رقة أشد لهذا الخطيب الساذج.

التقط الناقد الأدبي فؤاد دوارة خيط الحديث، وسأل حقي عن الخطباء خارج مصر، ما أغاظني في سؤال دوارة أنه أطول من أسئلة عبد الصمد ناصر وزين العابدين توفيق، لم يسأل مباشرة، بل بدأ بديباجة طويلة عريضة، تحدث فيها عن أسفار صاحب القنديل ورحلاته في بلاد الله، وبعد أن "نشف ريقنا" قال: وماذا عن خطباء بلاد برة؟ وكان في مقدوره أن يلقي سؤاله مباشرةً، لكن ماذا نقول؟ وماذا نعيد؟

هز الرجل رأسه مع شيء من الزهو قائلًا: في إسطنبول، تابعت خطب مصطفى كمال أتاتورك، وكذلك خطب "هتلر" ووزير دعايته "جوبلز" في ميونخ، وجميع خطب موسيليني التي ألقاها من شرفة قصر فينيسيا الإيطالية في الفترة (1934 – 1939)، وفي الجمعية الوطنية الفرنسية استمعت إلى "دلا دييه"، و"بول رينو"، واليهودي "جول موك"، وأستاذهم جميعًا الشيوعي "ديكلو". ولم يعجبني المذهب الفرنسي في الخطابة، ورأيت فيه مبالغة وتكلُّفاً وتصنُّعاً - وبلغة شباب اليومين دول (أفورة) - في توظيف حركة الجسد، وراقني المذهب الإنكليزي في الخطابة، وهو أكثر تحفظًا في التعبير بلغة الجسد، لكنني - لا أخفيكم سرًا - لم أفلح في هذا السبيل، أعني في عالم الخطابة.

ثم التفت إليَّ وهو يقول: حدثتكم عن المذهب الفرنسي والإنكليزي، ولم تتح لي الفرصة للتعرف بشكل وثيق على التجربة الأميركية في الخطابة، وما يُعرف اليوم بالتوستماسترز، صحيح سمعت عن هذه المنظمة وأعلم أنها بدأت يوم 22 أكتوبر/ تشرين الأول 1924، وقد أسسها رجل يدعي رالف سميدلي، لكنني كنت مشغولًا بأمور لم تسمح لي بمتابعتها. أطرق قليلًا وهو يفتل عصاه بين يديه، وبينما يرفع رأسه يبتسم ويضع عصاه بين فخذيه، ويشعل سيجارته ويسعل سعلة خفيفة، ليواصل ما انقطع من حديثه ونحن من حوله نستحثّه ألا يتوقف عن الحديث.

فقال: لم تتح لي فرصة الخطابة في حفل إلا بعد أن جاوزت سن الخمسين، وقد رأيت دائمًا أن الارتجال خيرٌ من الحفظ، وإنما ينبغي للخطيب على الأقل أن يعدّ مدخل كلامه، ولو جملة واحدة تفتح له الباب؛ فلا يتلجلج أو يتريّث طويلًا عند بدء الحديث. والحديث أمام جمهور لأول مرة بعد سن الخمسين كارثة، كان يتعين عليَّ الإقدام على تلك الخطوة مبكرًا، لا سِيَّما أنني خريج كلية حقوق، ويفترض أنني أقف أمام القاضي وأن يجلجل صوتي المحكمة ويزلزل أركانها!

لم تكن الصعوبة التي واجهتني في أول عهدي بالمحاماة هي (ماذا أقول؟)، بقدر ما هي (كيف أقول؟) رغم أني دخلت المحاكم - كمتفرِّج - من قبل؛ فإنني لم أقدر صعوبة موقف المحامي إلا حين وقفته. كنت أود أن يجيء مكاني - كما نرى في محاكمات السينما الفرنسية - بجوار المتهم؛ فيميل إليَّ موشوِّشًا وأميل إليه هامسًا، وأن تتهيأ لي الأسماع حين يطلب مني القاضي أن أتفضل وأبدأ المرافعة، وأن يتاح لي أن أثب من مكاني؛ لأمسك بتلابيب الشاهد، وسبابتي تكاد تخرق عينه، وأن أفضح كذبه بسيل من الأسئلة البارعة.

لكن الواقع يختلف عن الأحلام الوردية، وشتان ما بين النظري والتطبيقي؛ فإن النظر ينقلب حسيرًا، وبينما كنت في محكمة الدلنجات وجدتني أجاهد بذراعي كي أجد لي مكانا، وإذا قام جاري عن يمينٍ أو يسارٍ قمت أنا أيضًا - لأني قزم ضئيل - بضغط أجسامهم، والمتهم وإن كان مقبوضًا عليه في قفص الاتهام؛ فهو بعيد عني. وإن كان مُطلق السراح؛ فهو يقف سدًا بيني وبين القاضي، يجد من حسن الأدب ألا يدير وجهه إليَّ، وإذا نظرت إلى الناس من ظهورهم وجدتهم كلهم أبرياء.. كل شيء يجري في عجلة، رول الجلسة به 250 قضية على الأقل!

وفي المحكمة تعرضت لموقف طريف - أو أصبح طريفًا لاحقًا، لم يكن كذلك حينها - إذ قررت أن أقف أقرب ما يمكن من منصة القضاة، وإذا بالقاضي ينظر في اتجاه مغاير ويضرب بكعب قلمه على المنصة قائلًا (اتفضل)، ونظرت للقاضي فرأيته ينظر إلى محامٍ غارق بين أكوام الورق يقلبها، فسكت وانتظرت أن يحين دوري، ثم أعاد القاضي نفس الكلمة المقتضبة (اتفضل)، ولم يتحدث أحد؛ فإذا بالقاضي يميل بكل جسمه إليَّ وهو غاضب قائلًا: ما قلنا ستين مرة اتكلم يا حضرة المحامي! لأكتشف أن القاضي أحول!

وبعد سيلٍ من الضحك المتواصل، أمسك صاحب القنديل عن الكلام، وقد علمنا منه أن ثروت أباظة له قصص نادرة مع الخطابة، وكذلك أنيس منصور والمازني وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وغيرهم، وتعاهدنا أن نلتقي بهم ونسمع منهم، وأن نفيد من تجاربهم الخطابية، وللحديث صلة.