وشوشة الغرباء

وشوشة الغرباء

28 يوليو 2019
+ الخط -

يسير الباص في صباح مشمس دافئ، ولكنني بدأت أتلمس فتحات التهوية علّي أحظى ببعض النسيمات الباردة، لتُذهب عني ضيق الصدر وانقباضة الصباح، أعرف بأن الوقت مبكرٌ عليها بعض الشيء، فالكثير من الركاب ما زال متدثرًا بمعطف خفيف، يتقي به نسمات الصباح الباردة، ولكن الاختلاجات تلك تدفعني لطلب الهواء المنعش، حتى أخال نفسي غريقًا يتلمس بقية من حياة، وهي نسيمات هذا الجهاز الخبيث.

يتكرر سؤالٌ في كثيرٍ من مقابلات العمل، عن موقع طالب الوظيفة بعد سنوات عدة، وكيف يرى نفسه بعد ثلاث أو خمس سنوات من العمل في هذه الشركة العريقة المميزة، وها أنا اليوم على بعد أكثر من عشر سنوات من انطلاقي في سوق العمل، بشكلٍ جزئي ومن ثم متفرغًا أسعى على رزقي ورزق عيالي، أتبصر في هذه الأعوام السالفة، وما أنا عليه اليوم، لا أُعيد التفكير في قراراتٍ سابقة، وخياراتٍ اتخذتها، فقد أصبحت جزءًا من الذاكرة، وإني من الّذين لا تؤثر بهم عوادي الزمان وتقلبات الأحوال، ولكنني أتطلع للسنوات العشر القادمة، ليس ضربًا من الغيب بل محاولة لاستشراف واقع قادم، وربما قريب، والنفس تطلب الدعة والسكينة، والطموح يطلب المزيد من النجاح والتقدم، والواقع محبط قاتم.

يمضي الباص بين جنبات مدينتنا الهادئة، أراقب من شباكه عادات الناس في الصباح وحركتهم التي لا تهدأ، وعلى الرغم من كونه يوم عطلة، ترى الناس تتشابه بشكلٍ عجيب، فمن جائع يلتهم كعكة أو "منقوشة" بنهم وسعادة، إلى أصحاب القهوة التي يرتشفونها بأجفان ناعسة وعيون حالمة وخمرتهم السوداء تترنح بين أصابعهم، إلى أولئك الذين ينفثون همومهم دخانًا قاتلًا، ويحدقون نحو الفراغ، وبينهم ومعهم أحاديث وكلمات، وهمسٌ عن السياسة وحال البلد، كلٌّ يمضي في طريقه، تختلف الطرق، والسعي واحد، والرزق مقسوم.

قليلًا ما أشعر بأن عليّ التوقف عن فعل أمرٍ ما، ولكنه مذ أن يطرق خلدي، حتى يتحول من مرحلة الشعور إلى نوعٍ من التخاطر الداخلي حول أهمية تحولي عن هذا الأمر، أن أرفضه بكل ما في جوارحي.

أعرف أن لديَّ معاناة قديمةً مع البدايات، ولكنني في كثيرٍ من المواقف أفضل أن أقف في منتصف الطريق، أن لا أصل أبدًا إلى الخواتيم، فالخاتمة أحيانًا ليست سوى الجزء الحزين من القصة، وهي جرعة السُم التي عليك تجرعها بعد مسيرٍ طويل وسعيٍ دؤوب.

يستمر مسيرنا سويعةً أُخرى، ولا جديد في هذا الطريق إلا تلك الأحاديث التي تهامسها السابقون، أصغي لها عسى أسمع وشوشة تسبغ على قلبي بعض الطمأنينة، ولكني غريب عنها، فهي أحاديث الغرباء، الذين مروا من هنا ذات يوم، نزفوا الكلمات في فضاء هذا الأفق، ولكنها كلمات لا ميزان لها أو ترجمة.

أحدق بالأفق بعيونٍ هائمة ناعسة، أستسلم لتلك الوشوشة المبهمة، ويمضي الباص في وجهته، وأغرق مرة أخرى في التفكير...

في مكانٍ ما
29/4/2019

31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".