في البحث عن "بارفان" فكري

في البحث عن "بارفان" فكري

26 يوليو 2019
+ الخط -
اعتادت مدينة ليون التي أعيش فيها تخفيض ثمن تذاكر المواصلات العامة في مواسم الحر أو حتى جعلها مجانًا، كي تشجع الناس على التنقل في الباصات والقطارات، وترك سياراتهم في المنزل للحد قدر الإمكان من تأثير موجات الحرارة المرتفعة على البشر والبيئة.

أمثالي ممكن كانوا معتادين أصلاً على استعمال وسائل النقل العام سيلاحظون بالطبع ازديادا هائلا في أعداد مستعمليها هذه الأيام.

والمشكلة أنك عندما تضطر في ظروف كهذه إلى ركوب الميترو مثلا، ويجتمع عليك الازدحام والحرارة معا ستكون بلا شك عرضة لشم روائح تذكرك بقول نجوى كرم: "خليني شمك مرة وبعدا روح بغيبوبة".

الغريب في روائحنا نحن البشر أنّ الآخرين فقط هم من يشمونها، أما صاحب الرائحة نفسه فسرعان ما يعتاد أنفه عليها ويصبح عاجزا عن تمييز طيبها من خبيثها، سواء كان ممن اعتاد التطيب بأفخم العطور الباريسية، أو كان ممن يغتسلون في المناسبات والأعياد الرسمية فقط.

كنت دائما مغرما بتشبيه الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف روائح البشر بأفكارهم لأنهم يعتادون عليها، ويصبحون عاجزين مع الوقت عن إدراك ما يطرأ عليها من فساد ونتن.
يشبه الأمر اجتماع عدد كبير من البشر في مكان مغلق زمنا طويلا، ستسوء رائحة المكان شيئا فشيئا بلا شك، إلا أن أحدا من المجتمعين لن يفطن إلى فجائعية رائحته لأنه ببساطة اعتاد عليها، وإذا حدث أن دخل على هؤلاء أحد من الخارج فسيكون قادرا بسهولة على إدراك حجم النتن الذي ألفوه، كذلك هي الكثير من أفكار البشر ومعتقداتهم، يتبنونها وينشؤون عليها منذ الصغر، ويعجزون مع مرور الوقت عن تمييز ما قد يكون فيها من هراء، خصوصا إذا كانوا بدورهم قد أغلقوا النوافذ والأبواب في وجه كل رأي لا يشبه ما تعلموه وأدمنوه.

أقول رغم أن تشبيه حمزاتوف طالما راق لي وأعجبني إلا أنني اليوم وبسبب الموقف العصيب الذي وضعتني فيه بلدية ليون، ولأني أردت أن أفكر بأي شيء يُنسيني رائحة جاري في الميترو تبين لي أن هذا التشبيه على جماله ليس غايةً في الدقة، وأنّ ثمة فروقا هامة وجوهرية بين روائحنا وأفكارنا:
فليس صعباً مثلا أن تقنع إنسانا أنَّ رائحته سيئة لكنّ من الصعوبة بمكان أن تقنعه بأنّ أفكاره كذلك.
ثمَّ إنَّ البشر لا يدافعون كثيرا عن روائحهم، وعندما يشعر إنسان يتمتع بأدنى حد من الذوق بأن الناس تنفر من رائحته يسارع إلى الاغتسال أو التطيب أو الابتعاد، بينما يمكن له أن يرتكب أبشع الجرائم دفاعا عن أفكارٍ هي أنتن بكثير من رائحته.
عندما يجلس شخصان في الميترو لأحدهما رائحة زكيّة وللآخر رائحة جيفة، سيشم كل منهما على الأرجح رائحة الآخر كما هي، سيتأذى الأول من رائحة الثاني، ويتمنى لو أنه عاد إلى بيته مشيا، وسيتمتع الثاني برائحة الأول، بل ربما يسأله عن اسم عطره ليقضي عليه برائحة فمه بعد أن كاد يفعل برائحة إبطه. في المقابل عندما يتناقش شخصان، فإن كلا منهما على الأرجح سيُغرم بأفكاره هو ويشمئز من أفكار خصمه.
من الفروقات الكبيرة بين روائحنا وأفكارنا أيضا، أنه من السهل للغاية التخلص من رائحة أجسامنا الكريهة، إذ كل ما نحتاجه لذلك هو دلو ماء وثياب نظيفة ومسحة عطر، أما التخلص من عفن الأفكار فهو بحاجة إلى جهاد وعملٍ طويلين، بحاجة إلى شجاعة استثنائية، وحس نقدي فذّ.
أخيرا كثيرا ما تكون أفكار الآخرين التي لا تعجبنا مجرد مادة للتندر والسخرية، أما روائحهم فقد تدفعنا لتغيير شيء ولو كان بسيطاً في حياتنا، كحالي الآن وأنا أقسم على شراء سيارة فور خروجي من هذا الميترو اللعين.

دلالات

DE6F2D87-A129-4150-B6C9-62447DFE552B
مصطفى علوش

مدوّن سوري، حاصل على الدكتوراه في الدّراسات العربيّة من المدرسة العليا للأساتذة في مدينة ليون الفرنسية، محاضر في جامعة ليون الثانية.يقول: "أبحث عن الحقيقة من جديد كلما توهَّمْت الوصول إليها، فنحن على هذه الأرض لِنتعلّم لا لِنعلم".