خط الحياة الواصل بين الجلادين والضحايا (2/2)

خط الحياة الواصل بين الجلادين والضحايا (2/2)

22 يوليو 2019
+ الخط -
كان يمكن لخط السكة الحديدية الذي حاول اليابانيون بناءه بالقهر، أن يختفي تماماً من الوجود، لولا أولئك الذين يولون أهمية كبيرة للحفاظ على الذاكرة من التزييف وإعادة كتابة التاريخ، أو حتى الذين يحبون أن يحتفظوا بتذكارات الماضي مهما كانت مريرة ودامية، ولذلك تمت إزالة أقسام صغيرة من الخط الحديدي والاحتفاظ بها، وتم تحويل بعض أجزائه إلى مواقع سياحية، اعتبرها بعض المهاويس بالماضي الإمبراطوري مواقع وطنية مقدسة.

لكن ذلك لم ينف حقيقة أن ذلك الخط الحديدي اللعين تحطم مثل كل الخطوط التي تصنع بالقهر، وأن كل ما حدث من أجل بنائه كان للأسف "في سبيل لا شيء، ولم يبق منه شيء"، ومع أن هناك كثيرين ظلوا يتوقون إلى المعنى والأمل في تأملهم للخط وقصته، لكن سجلات الماضي أكدت لهم دائماً أنها "مجرد قصة موحلة من الفوضى"، وأن ذلك "الخراب الهائل اللامحدود والمدفون"، وتلك الغابة الممتدة إلى مسافات بعيدة تحمل أحلام إمبراطورية ورجالا موتى، لم يبق منها إلا أعشاب طويلة، وأنه "ما من سبب ولا تفسير، لا عدالة أو أمل، بل لا شيء سوى الحاضر، ومن الأفضل تقبل ذلك"، كما يقول بطل رواية (الدرب الضيق إلى مجاهل الشمال) لنفسه حين يتأمل مسيرته مع الحياة بعد أن عاد إلى بلاده، وكيف أتاح له العالم أشياء وحجب عنه أشياء أخرى، لكنه في النهاية أدرك أن أعلى شكل من أشكال الحياة هو "الحرية في أن يكون الرجل رجلاً، وفي أن تكون الغيمة غيمة، وفي أن يكون الخيزران خيزراناً"، ومع مرور الوقت، تصالح البطل الناجي من الخط المميت، مع حقيقة أن أحلامه ستظل الشيء الحقيقي الوحيد في حياته، مع أنه كان فيما سبق لا يجد ما يدعوه للفخر بأسرته التي كان يحبها، فقد كان إنجازها الرئيسي هو البقاء على قيد الحياة فقط، وكان لا بد أن يخوض بطلنا تلك التجربة المريرة مع الأسر والقهر، ليقدر عظمة ذلك الإنجاز ويدرك أهميته.  


على الجانب الآخر من خط الحياة الذي تستعرضه رواية (الدرب الضيق إلى مجاهل الشمال) التي كتبها ريتشارد فلاناغان وترجمها خالد الجبيلي، هناك مجرم الحرب الياباني ناكامورا، الناجي بدوره ولكن من العقاب، والذي تمكن من إعادة اختراع نفسه بعد انتهاء الحرب، ليتحول بشكل ما إلى مواطن صالح لا علاقة له بكل ما جرى من قتل وخراب، لكنه برغم نجاحه في الإفلات من طائلة العقاب التي لحقت بالكثير من زملائه الجلادين، اكتشف أنه يشعر بغرابة تحوله إلى فكرة أنه رجل طيب، وقد حيّره ذلك الشعور في البداية، ولم يفهم مصدره "هل هو تكفير عن الذنب؟ إثم؟ عار؟ هل هو لا وعي متعمد؟ هل هي كذبة أم أنها الحقيقة؟"، وعلى عكس ما يتصور البعض عن الإحساس بالذنب الذي يثقل كاهل الجلادين، لم يستطع الجلاد الياباني الهارب من تسديد فواتير ماضيه، أن ينكر حقيقة أنه كان يشعر في بعض الأحيان بافتخار وحشي حين يتذكر بعض من قتلهم أو من تسبب في وفاتهم، بل إنه مع الوقت استطاع أن يقنع نفسه بأنه لم يكن يتحمل أي مسئولية عما حدث، وبعد أن مرت السنين وأنسى بعضها بعضاً "أضعف الزمن ذاكرته عن الجرائم التي كان قد ارتكبها، واستحضرت ذاكرته بدلاً عنها قصصاً عن الطيبة وعن الظروف المخففة، ومع مرور السنين وجد أن لا شيء يشغل اهتمامه سوى الأشياء الصغيرة".

لم يعد الجلاد جلاداً حتى في نظر نفسه، أصبح رجلاً ينظر إلى العالم بواقعية متصالحة مع حقائقه المريرة،  قائلاً لنفسه: "في هذا العالم نمشي فوق سطح الجحيم ونحدق في الزهور"، ومع أنه يندفع أحياناً إلى الخلف، إلى دوامة هائلة من الناس والأشياء والأماكن التي كان يظن أنه قد نسيها إلى الأبد، لكن ذلك الاندفاع لم يعد يقوده إلى جرائمه التي بَهُت حضورها وإلى ضحاياه الذين تلاشى ذكرهم، بل أصبح يقوده إلى "عاصفة حزينة راقصة من الأشياء المنسية أو نصف المتذكرة، حكايات، بيوت من الشعر، وجوه، إيماءات أسيء فهمها، حب رُفض بازدراء، زهرة كاميليا حمراء، رجل يبكي، قاعة كنيسة خشبية، نساء، ضوء سرقه من الشمس"، وغيرها من التفاصيل العادية التي ربما لا نتصور أنها كل ما أصبح يخطر على بال جلاد كريه.

على الطرف المقابل من خط الحياة، لم يكن بطلنا رودريغو إيفانز الناجي من الخط الحديدي المهلك يعلم شيئاً عما جرى لجلاده الياباني، لكنه لو كان قد عرفه لما استغربه، فقد تعلم الكثير في السنين التي قضاها في قراءة الكتب بعد خروجه من معسكر الاعتقال، لم تكن الكتب تفارقه أبداً، "كان ينام بسعادة من دون نساء لكنه لم ينم قط من دون كتاب"، ومع اتساع نهمه في القراءة تضاءل عدد الكتب العظيمة التي تجعله راغباً في إعادة قراءتها، وترغمه على إعادة قراءة روحه، لكنه حين كان يجد تلك الكتب كان يرى فيها هالة تشع إلى الخارج وتنقله إلى عالم آخر بداخلها، وتقول له إنه ليس وحيداً، ليدرك في النهاية أن العالم هو في حقيقة الأمر "كتاب لا بداية له ولا نهاية".

في مرحلة ما من مسار حياته كما ترويها لنا الرواية، تعلم روديغو إيفانز بعد قراءة الكثير من الكتب أن أحداً لن يتذكر بالضرورة حقيقة ما حدث له ولزملائه الهالكين على خط الموت، وأن ما جرى لهم سيبقى طي النسيان شأنه شأن افظع الجرائم التي ذهبت أدراج النسيان الجماعي، وأن "المعاناة، الموت، الحزن، اللا جدوى الفظيعة لهذا الألم الهائل المثير للشفقة التي عانى منها الكثيرون"، كل ذلك لن يوجد إلا في صفحات بعض الكتب، وأن تلك الكتب يمكن أن تحتوي الرعب داخل صفحاتها وتمنحه شكلا ومعنى، ومع ذلك فإن رعب الحياة سيظل أكثر وحشية وإيلاماً، "في الحياة لم يعد للرعب شكل أكثر مما يوجد للمعنى، الرعب هو الرعب وعندما يدهم يصبح كما لو أنه لا يوجد شيئ في الكون غيره". 

أدرك روديغو إيفانز أن المرء لا يستطيع أن ينجو من الرعب في هذا العالم الذي أصبح العنف فيه أبدياً، أصبح العنف هو الحقيقة العظيمة والإله الحقيقي الوحيد للإنسان، كما لو أن الإنسان خُلِق لينقل العنف إلى كل ما حوله ومن حوله، ليضمن أبدية بقاء العالم على ما هو عليه دون تغيير، وأصبح رودريغو يرى بحكم قراءته المتعمقة في تاريخ الإنسان أن هذا العنف قد وجد على الدوام ولن يُستأصل، ولذلك سيموت رجال تحت أحذية وقبضات ورعب رجال آخرين إلى الأبد، لأن التاريخ الإنساني كله في الحقيقة تاريخ عنف، لكنه لم يركن تماماً إلى ذلك الإدراك اليائس، لأن تقلبات الحياة أثبتت له في الوقت نفسه قدرتها على إرباك أي إدراك، مهما زعم هواة امتلاك اليقين أنهم قادرون على تكوين إدراك أبدي عن الحياة.   

ككل الحكايات العظيمة عن الحياة، لا تقدم لك رواية ريتشارد فلانغان حلاً سهلاً ولا نهاية سعيدة، بل تتركك هائماً بأفكارك على خط الحياة الواصل بين الجلادين والضحايا، حيث ينعم الجلادون عادة ببهجة النسيان والتصالح مع الحاضر، ويشقى الضحايا غالباً باستحضار الألم ومواجهة الرعب، ومثل رودريغو إيفانز تقول لنفسك حيناً إنه ما من سبب ولا تفسير لكل ما حدث وما سيحدث، وأنه ربما ليس ثمة عدالة ولا أمل، ولا شيء سوى الحاضر الذي سيكون من الأفضل أن نتقبله كما هو، لكن رعب العالم المحيط بك سرعان ما يكشف لك عن وهم الهروب من المواجهة، الذي تصوره الكثيرون حين اختاروا التصالح مع الحاضر، لكن ذلك لم يحمهم من مصيرهم لأن الحاضر لم يقبل بأقل من سحقهم، ولذلك تقول لنفسك ألن يكون من الأجدى أن يحاول الإنسان منا مواجهة رعب الكون، ولو حتى بمحاولة احتوائه في أفكار أو حكايات أو تساؤلات أو محاولات للإجابة؟ ألن يكون من الأنفع أن نقاوم الهلاك ما استطعنا، طالما أن استسلامنا له لن ينجينا ولن يطيل في أعمارنا، ألن يكون من الأفضل أن نحاول حرمان الجلادين الهاربين من العقاب من بهجة الإفلات بجرائمهم، ولو كان ذلك بفضحهم في صفحات كتاب؟ 

لم لا؟

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.