التعليم الخنفشاري (1)

التعليم الخنفشاري (1)

22 يوليو 2019
+ الخط -
انضم الأستاذ مجيد الدردي إلى سهرات الإمتاع والمؤانسة في مطلع سنة 2019. عرفنا أنه كان متمسكاً بفكرة البقاء في مدينة إدلب إلى حين وفاته، ولا يغادرها مهما كلّف الأمر، ولكن ابنه الأوسط "عماد" تشاجر، قبل حوالي أسبوعين، مع واحد من الغرباء الذين استوطنوا المدينة ولم تعد لديهم نية للمغادرة والعودة إلى بلادهم الأصلية.

كان الأستاذ مجيد يريد أن يطوق المشكلة ويُخرج ابنَه من هذه الورطة، لأن الرجل الغريب مسلح، وينتمي إلى جماعة مسلحة عُرف عنها الاستعداد لإلحاق كل أنواع الأذى بالآخرين. وفي ذروة احتدام المشكلة، حضر شاب مسلح كان في يوم من الأيام واحداً من طلاب مجيد الكسالى، ووقتها استبشر خيراً، معتقداً أن تلميذه سيتدخل لتسوية المشكلة، ولكن الشاب خاطب الأستاذ مجيد بلا أي تحفظ أو لباقة، وقال له: إنته كنت أستاذنا، نعم، ع راسي، ولكن إبنك عماد قليل تربية، بودُّه يلهي ضيفنا المجاهد عن واجب الجهاد!

قال مجيد، وهو يتفطر من الغيظ والألم: صدقت يا إبني. نعم إبني عماد قليل تربية، أنا من زمان لما كنت عَمّ أربي ولادي ما كان في عندنا مجاهدين، مع الأسف، وما علمتُه كيف الطريقة الصحيحة للتعامل معهم. كان في عندنا شوية بعثيين مناضلين، عَلَّمْتْ أولادي يتحاشوهم، لأنه في بينهم رفاق بيحبوا كتابة التقارير والأذى. منشان هيك إبني أظهرْ قلة تربية كبيرة وغلط بحق أخيكم المجاهد الصنديد. لكن والدك، الله يرحمه، كان قمة في التربية والاحترام، وأكيد رباك تربية عظيمة، منشان هيك حضرتك عم تخاطبني بهاي اللغة المهذبة!

قال ما قال، وسحب ابنه "عماد" من المكان ورجع إلى المنزل. وخلال أسبوع واحد، باع الأشياء القليلة التي يمتلكها، وخرج مع أسرته باتجاه تركيا، واضعاً في حسبانه الذهاب إلى بلاد لا يوجد فيها رفاق بعثيون ولا مجاهدون عابرون للحدود.

بلغ الأستاذ مجيد الآن حوالي 75 سنة من عمره، وقد حقق في مجال التعليم مجداً رفيعاً، وكانت تُطلق عليه عدةُ ألقابٌ تتضمن المديح والثناء، من مثل: المربي الفاضل، ومربي الأجيال، المعلم المبجل.

كنا نسهر في منزل "أبو إبراهيم" في حي الفاتح بمدينة إسطنبول عندما حضر مجيد برفقة صديقنا أبو الجود الذي التقى به مصادفة وهو يتسكع في شارع "جيهان جير". رحبنا به ترحيباً حاراً، وأجلسناه في صدر المجلس.

قلت: خلونا يا شباب نستغل وجود المربي الفاضل المحترم الأستاذ مجيد بيننا، ونحكي عن التعليم في بلادنا بشكل عام، وفي مناطقنا الشمالية بشكل خاص.

ضحك الأستاذ مجيد وقال: طول بالك أبو مرداس. اليوم ما عاد في حدا "فاضل"، ولا عادْ في حدا "محترم".. ومتلما بيقولوا في الكلام الدارج: الطاسة ضاعت، واختلط الحابل بالنابل، و(تنابلنا القدماءْ - صاروا علماءْ).

قال الأستاذ كمال: الأستاذ مجيد معه حق. ما سمعتوا قصة تلميذُه الكسلان اللي تعامل معه بحقارة في إدلب؟

قال الأستاذ مجيد: أنا ما بحب أشكّلْ رأيي من خلال موقف شخصي يا أستاذ كمال. لاكن بدي قول إني مشكلتنا نحن العرب منحب تضخيم الأشياء، والفخفخة والقَنْفَشة. يا خيو المعلم موظف متل بقية الموطفين في الدولة، بيشتغل بتعليم الولاد وبياخد مقابل عمله راتب شهري. ومع هيك بيقولوا عنه فاضل، ومربي أجيال، حتى في ناس بيزيدوا الطين بلة وبيقولوا: مَنْ علمني حرفاً كنت له عبداً. هادا المتل لحاله بيمثل كارثة حقيقية موجودة في طريقة تفكيرنا. يا رجل، يعني منشان حرف واحدْ بتصير عبد؟ بعدين لاحظوا كيف الأمتال بتتضمن إساءة للناس. كنت له "عبداً". يعني بيتواضع أمام معلمه لحد ما يصير عبد. يعني في طريقُه عم يوجه إساءة للإنسان اللي اسْتَعْبَدُه أخوه الإنسان من دون ما يكون إله ذنب. 

قال أبو إبراهيم: اسمح لي يا أستاذ بتعليق زغير. هوي صحيح المعلم بياخد راتب لقاء عمله، وما إلُه فضل ع الطلاب ولا منية، لاكن بشكل عام الطالب بيشعر بالامتنان للإنسان اللي بيقدم لُه العلم.

قال أبو الجود: وأنا كمان بدي إحكي. يا أستاذ مجيد نحن في زَغَرْنا كنا نحترمْ المعلمْ كتير، ومنخاف منه، ووقت منتلاقى فيه بالسوق أو بشي شارع أو زقاق، كنا نْخَشّبْ، ونركض ع البيت رَكْضْ ووجهنا أصفر من الرعب، وتاني يوم منجهز حالنا للتحقيق، وفي كتير مرات كنا نتعرض للضرب بالعصاية. بتعرفوا مرة أشو صار معي؟

قال أبو جهاد: من دون ما نعرف. أكيد الأستاذ ضربك خمس عصي زيادة، لأنه شاف الجلدة تبعك قاسية متل جلدة الحردون!

قال أبو الجود: الأستاذ ما ضربني عصي زيادة. هوي كان، بالعادة، يْبَلِّغْ الطالبْ المذنبْ بعدد العصي. يقول للواحد، مثلاً، بدي إضربكْ خمسْ عصي، أو سبعة أو عشرة. أما أنا فما بَلَّغْني، صار يضربني على تيسير الله!! لحد ما صارت شغلة كويسة كتير. ولصالحي. انكسرت العصاية وما عادت صالحة للضرب.

سأله أبو إبراهيم: وأشو صار بعدين؟

قال أبو الجود: استنى لنشرب كاس شاي وبعدين بكفي لك القصة.

(يتبع)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...