خط الحياة الواصل بين الجلادين والضحايا (1/2)

خط الحياة الواصل بين الجلادين والضحايا (1/2)

21 يوليو 2019
+ الخط -
ككل الحكايات العظيمة عن الحياة، كان لتلك الحكاية بطلان ندّان: جلاد وضحية. 

في الواقع كان للحكاية الأصلية أبطال عديدون: جلادون تعددت درجاتهم ومراكزهم وتنوعت قدراتهم على البطش، وضحايا اختلفت مصائرهم وتباينت قدرتهم على احتمال ما جرى لهم، لكن الكاتب ريتشارد فلاناغان حين قرر أن يروي نسخته من تلك الحكاية على الورق، كان لا بد له لكي يسيطر عليها أن يختزل أبطالها في شخصين: ناجٍ من الهلاك الذي حل برفاقه، ومجرم حرب أفلت من العقاب، ومع أنه كان يحكي وقائع حقيقية يعجز الخيال عن مجاراتها، إلا أنه صارح قارئه منذ البداية أن "الحياة كلها ما هي إلا حكاية رمزية، أما القصة الحقيقية فهي ليست هنا، لأنها أشبه بخريف طويل لعالم يحتضر". 

في روايته الرائعة (الدرب الضيق إلى مجاهل الشمال) الحاصلة على جائزة البوكر العالمية لعام 2014، والتي صدرت نسختها العربية عن منشورات الجمل بترجمة القدير خالد الجبيلي، يتتبع الكاتب الأسترالي ريتشارد فلاناغان مصير رجلين جمعتهما قصة عبثية بدأت في 15 فبراير 1942، حين بدا للعالم أن الإمبراطورية البريطانية الضخمة قد سقطت إلى الأبد حين خسرت نفوذها على سنغافورة، وأن إمبراطورية اليابان الصاعدة قد بسطت نفوذها الأبدي على الشرق، الذي لم تعد تكتفي فيه بما غنمته بالفعل، بل قررت أن توصل نفوذها إلى الهند لتستولي عليها عبر بورما، ومن أجل تحقيق ذلك الحلم المُسكر، قرر قادة اليابان أن يبدأوا في عام 1943 ببناء خط سكة حديدية عملاق، لكي يضمن تزويد قواتهم في بورما بالرجال والمعدات براً، لعلهم بذلك يستطيعون حسم الحروب الضارية التي كانت تدور على أكثر من جبهة لبسط النفوذ النهائي على الشرق. 

على الورق، كان مشروع بناء خط السكة الحديدية مغامرة فاشلة، لأن اليابان لم تكن تملك المال والمعدات اللازمة لبنائه، ولم تكن تملك الزمن في صفها أيضاً، لكن الإمبراطورية اليابانية كانت بأكملها مُستلبة بإيمان قادتها الراسخ بأنهم سينتصرون، فقط لأنهم يمتلكون "الروح اليابانية التي لا تقهر، تلك الروح التي لا يمتلكها الغرب، تلك الروح التي يقال إنها إرادة الإمبراطور، الروح التي تؤمن بأنها هي التي ستسود وتهيمن حتى تحقق انتصارها النهائي"، ولأن الروح بمفردها لا تستطيع بناء خطوط السكك الحديدية، فقد كان لا بد من أن تستغل الإمبراطورية ما حظيت به من "عبيد" أسرتهم في جبهات القتال، نتحدث عن مئات الآلاف من الجنود الآسيويين والأوروبيين الذين ظنوا أنهم كانوا حين فقدوا حريتهم، أسعد حظاً من زملائهم الذين فقدوا حياتهم، كان من بين هؤلاء اثنان وعشرون ألف أسير حرب أسترالي، استسلم معظمهم حين سقطت سنغافورة "كضرورة استراتيجية حتى قبل أن يبدأ أي قتال حقيقي"، تم إرسال تسعة آلاف أسير منهم للعمل في بناء خط السكة الحديدية الياباني العملاق، وبفضل هؤلاء وزملائهم من شتى الجنسيات، تحول ذلك الخط العملاق من حلم بعيد المنال إلى واقع ملموس. 

في 25 تشرين الأول من عام 1943 انطلقت القاطرة البخارية 5631c على قضبان خط السكة الحديدية الذي انتهى العمل به، حاملة على متن عرباتها شخصيات بارزة من القادة اليابانيين وحلفائهم، الذين لم يكن أحدهم مهتماً بأنه يسير على رفات عدد لا نهائي من عظام البشر الذين شاركوا في بناء الخط الحديدي، كان من بين هؤلاء الضحايا واحد من كل ثلاثة من أولئك الأستراليين الأسرى الذين دفعوا حياتهم ثمناً لبناء "سكة الموت"، لتستقر أسماء أولئك البائسين بعد عشرات السنين داخل كتاب ضخم يحمل عنوان (كتاب الأرواح)، يضم مليوني اسم من أسماء الذين ماتوا "في خدمة إمبراطورية اليابان" في الحروب الممتدة بين الأعوام من 1867 إلى 1951، ليستقر ذلك الكتاب في ضريح ياسوكياني في طوكيو، كجزء صغير من متحف يشكل جزءاً أكبر من النصب التذكاري الوطني غير الرسمي للحروب اليابانية، يضم ضمن محتوياته أيضاً تلك القاطرة البخارية التي لا زال البعض ينظرون لها بكل فخر واعتزاز، ولا زال آخرون ينظرون إليها باندهاش وتأمل، لكن قليلين فقط هم الذين ينظرون إليها بأمل في براءة بلادهم وغفرانها من جميع أعمال الشر التي ارتكبت باسم الروح اليابانية المقدسة. 

للأسف، قليلون أيضاً هم الذين يعرفون أن (كتاب الأرواح) لا يضم أسماء الضحايا فقط، بل يضم أيضاً أسماء 1068 رجلاً من المدانين بجرائم حرب تم إعدامهم بعد الحرب العالمية الثانية، بعض مجرمي الحرب أولئك هم من الذين أشرفوا على إنشاء سكة حديد الموت، وتمت إدانتهم بسوء معاملة أسرى الحرب، لكن اللوحة المعلقة أمام القاطرة التذكارية التاريخية لا تذكر شيئاً عن ذلك، بل تجمع بين الجلادين والضحايا جنباً إلى جنب، كما لا تذكر شيئاً عن الجرائم التي ارتكبت أثناء عملية مد السكة الحديدية، والتي شارك في إنشائها ستون ألف رجل من أسرى الحرب التابعين لقوات الحلفاء، وما يقرب من ربع مليون شخص من التاميل والصين وجاوة وماليزيا وتايلاند وبورما، يختلف المؤرخون في تحديد أعداد من قضوا نحبهم منهم، بعضهم يقول إن خمسين ألفاً من أولئك العمال العبيد لقوا حتفهم خلال إنشاء الخط الحديدي، ويقول البعض إن الرقم يصل إلى مائة ألف، ويوصله مؤرخون آخرون إلى مئتي ألف، لكن أحداً لا يعرف العدد بدقة، وربما لن يعرف أحد أبداً، لأن أسماء أولئك البائسين أصبحت طي النسيان، وإن أمكن للبعض أن يضم أسماء بعضهم في (كتاب الأرواح)، فإنه لن يكون بمقدور أي سجل مهما بلغت دقتهم أن يتحدث عن أرواحهم التائهة إلى الأبد. 

 

كان بطل رواية (الدرب الضيق إلى مجاهل الشمال) دوريغو إيفانز واحداً من الذين نجوا من الهلاك البدني على ذلك الخط اللعين، الذي أوصل كثيراً من صناعه إلى الجنون، بعد أن قضوا أياماً لا يعلمون عددها محرومين من الانشغال باي شيئ غيره، فأصبحت البشرية بالنسبة لهم منحصرة في نوعين من الرجال: الذين كانوا على الخط، وما تبقى من البشرية التي لم تكن على الخط، ثم بعد كل ما شهدوه من مصاعب ومآسٍ، لم يعد هناك في الحياة سوى نوع واحد فقط من البشر، هم الرجال الذين نجوا من الخط وظلوا على قيد الحياة، لكن الخط لم يفارق هؤلاء بقية حياتهم، ليصبح الخط بالنسبة لهم أبعد من قضبان حديدية، بل فكرة تشكل جوهر الحياة، شيئاً يمتد من نقطة إلى نقطة أخرى، "من الحقيقة إلى الوهم، من الحياة إلى الجحيم"، فتتلاشى كل أحلامهم ومطالبهم وتنحصر في شيئين لا ثالث لهما: الطعام والراحة، وتولّي الأيام التي كان بعضهم يقول للآخر إن العقاب الحقيقي الآن هو أن لا تتمكن من لمس إمرأة، فقد أصبح العقاب الحقيقي هو مجرد التفكير بامرأة. 

حين أطاحت القنبلة النووية الأميركية المدمرة، بحلم الإمبراطورية اليابانية في السيطرة على الشرق بأكمله، فقد خط السكة الحديدي المميت جدواه وأهميته، ولم يعد يكترث به أحد من الذين كانوا يرونه دليلاً على عظمة بلادهم، وتم سجن المهندسين والحراس اليابانيين المسؤولين عنه أو إعادتهم إلى بلادهم، وتم تحرير الأسرى "العبيد" الذين بقوا على قيد الحياة، والذين ظلوا يعملون في صيانة الخط بعد انتهائهم منه، لتحل نهاية الخط الحديدي سريعاً بعد أسابيع قليلة من انتهاء الحرب، حيث قام الإنكليز بتفكيك بعض مراحله، وقام أهالي القبائل بانتزاع البعض الآخر وبيعه، ومع مرور الوقت "تهدمت دعائمه، وتآكلت جسوره وامتلأت فجواته، واختُزِل إلى مسخ، وحيث خيم الموت ذات يوم، عادت الحياة الآن. ورحّب الخط بالمطر والشمس، وتبرعمت البذور في القبور الجماعية، وبين الجماجم وعظام الفخذ، ومقابض المعاول المكسورة، وتسلقت النباتات إلى جانب المسامير والقضبان، واندفعت حول عوارض خشب الساج وألواح الكتف والفقرات وعظام الفخذ. رحّب الخط بالأعشاب التي نبتت فوق الحواجز والسدود التي كان العبيد قد حملوها كتراب وصخور في قصائدهم، ورحّب بالنمل الأبيض لينهش أخشاب الجسر الساقطة التي كان العبيد قد قطعوها وحلوها ورفعوها، ورحّب بالصدأ الذي غطى حديد السكة الذي كان العبيد قد حملوه على أكتافهم في صفوف طويلة، ورحّب بالتعفن والخراب. وفي النهاية كان كل ما تبقى هو الحرارة وسحب المطر والحشائش والطيور والحيوانات والنباتات التي لم تعرفها ولا تهتم بها".

نكمل غداً بإذن الله.  

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.