في ذكرى رحيل غسان كنفاني

في ذكرى رحيل غسان كنفاني

19 يوليو 2019
+ الخط -
مرت قبل أيام قليلة الذكرى السابعة والأربعون لرحيل الروائي والمناضل الفلسطيني الكبير "غسان كنفاني" شهيداً جميلاً، اغتالته الآلة المخابراتية الإسرائيلية سنة 1972. وهو وإن لم  يُكْتَبْ له أن يُعَمَّرَ طويلاً (ولد سنة 1936)، إلا أن أثره في دنيانا كان كبيراً وكثيفاً بحجم الوطن الذي انتمى إليه وحمل همّه. وقد مثّل الرجل بِمُزَاوَجَتِهِ بين الإبداع الأدبي ونشاطه الْمُقَاوِمِ نموذجاً "لِلْمُثَقَّفِ الْعُضْوِيِّ" الْمُلْتَزِمِ (أعترف بحذري وترددي الشديدين في استعمال مفهوم "غرامشي" ذاك لوجود كثير من اللبس وسوء الفهم حوله)، فتحول بذلك إلى أيقونة ظل وَهَجُها ممتداً زمناً طويلاً قبل أن يتراجع قليلاً في السنوات الأخيرة مع مستجدات واقعنا العربي البئيسة. لكن كنفاني وأمثاله لا يموتون ولا يُنْسَوْنَ أبداً، فالصادقون المخلصون الذين قرنوا القول بالعمل قلة، والتاريخ لا يمكن له إلا أن يُخَصِّصَ لهم موقعاً أسمى ضمن قائمة الكبار الذين يحتفي بهم.

 تحل ذكرى رحيل الأديب "المقاوم" وحالنا كعرب من سيئ لأسوأ، ولا ندري كيف كان سيكون موقفه من وضعنا إن حصل وكُتِبَ له أن يعود ويعاين ما نحن عليه، إذ تحولنا إلى غُرَبَاءَ يضرب بعضنا أعناق بعض؛ مُرْتَهَنِينَ أكثر من أي وقت مضى لأعدائنا، متآمرين على مصائرنا ومُهْمِلِينَ لقضيته وقضيتنا الأولى. 

نفتقد غسان كنفاني إذاً ونجدد عهدنا به كل عام، لأنه يمثل نموذجاً للكاتب والمناضل الثوري الصادق، تشهد له بذلك ميادين المقاومة وردهات عملها التنظيمي بسبق ومبادرة قل مثيلهما. فمع نضاله ونضال مقاومين مخلصين آخرين تَشَرّبْنَا حب فلسطين وجعلناها قضيتنا الأولى؛ متفاعلين مع تطورات أحداثها ومستنفدين فيها الكثير من وقتنا تفكيراً واهتماماً. 

وفي ذكراه، نفتقد كذلك زمنه الذي مضى، لأننا - كشعوب عربية - كنا يومها أكثر تآلفاً وإحساساً بعضنا ببعض، بالرغم من قلة حيلتنا وسلسلة هزائمنا، فكان أن ظل شعاع الأمل في دواخلنا مُتَوَهِّجاً لا يدخلنا يأس ولا تفتر لنا عزيمة. زمن لم يكن الفرز فيه يتم على أساس الطائفة والمذهب والأيديولوجيا، بل كنا فيه جميعنا متفقين على الانتصار لقيم العمل والتضحية بعيداً عن أيّ اصطفافات بغيضة أخرى، يتوحد في ذلك المسلم والمسيحي، السني والشيعي، المتدين وغير المتدين. ولم يخطر ببال أحد منا وقتها التقصّي عن دين غسان أو طائفته، فجسد بذلك - وهو الفلسطيني المسيحي الماركسي - قدوة ودليلاً للمسلم كما كان مع غيره من أتباع الديانات والطوائف الأخرى، لِيحُوزَ الإعجاب والاعتراف والتقدير من الجميع على ما يقدمه للوطن والقضية دونما حسابات ضيقة أخرى.

وقد رافق إبداعه الروائي والأدبي مسار قضية العرب المركزية وتطوراتها إلى حين استشهاده، مساهماً بذلك بدور كبير في تشكيل وعي الشباب، وتعريفه بفلسطين وحال أهلها في ظل الاحتلال طوال عقود من الزمن وصولاً إلى يومنا هذا، فكانت قراءة ما يكتب كفيلة بوضعنا في سياقات أحداثها عبر مراحلها المختلفة. فإبداعه وإن كان في أغلبه أعمالاً تخييلية، إلا أنه نجح في أن يعكس لنا ببراعة ومقدرة كبيرتين حال الفلسطينيين في مَعِيشِهِم اليومي كما في نضالهم التحرري.

ومن أهم تلك الأعمال أذكر، ونذكر جميعاً "رجال في الشمس" التي تعدّ أول رواية أصدرها سنة 1963 متوقفاً فيها مع واقع القضية الفلسطينية وأهلها في المرحلة التي تلت نكبة 1948، راصداً للمستوى المتردي الذي وصلت إليه بفعل تداخل أسباب مختلفة، كان أهمها: حالة الشعور بالعجز واليأس والإحباط التي سادت بين الفلسطينيين، بفعل اختلال موازين القوى مع الكيان الصهيوني الغاصب، هذا مع استغراق مجموعة من الدول العربية في صراعات داخلية على السلطة، والتدافع حول الخيارات السياسية والأيديولوجية فيها. فكان أن عُدَّ العزوف عن مواجهة الوضع ومغادرة ما تبقى من الوطن أو محطات اللجوء الأولى خيار الكثيرين في سعيهم للخلاص الفردي.

 ولم تكن شخصيات هذا العمل - التي اختارها غسان كنفاني ممثلة لمختلف شرائح شعبه - إلا صدىً للإنسان الفلسطيني وتمثيلاً له في ما يعانيه من قهر وَغَلَبَةٍ. ففي "باكورة" أعماله الروائية تلك يتفاعل مع قضية اللجوء لدى أبناء شعبه - سيستمر في الاشتغال على موضوعة اللجوء في عملين روائيين آخرين له هما "ما تبقى لكم" و"عائد إلى حيفا" - والوجهة يومها "الكويت" بما تحمله من رمزية العيش الكريم والاغتناء السريع، إذ هي يومئذ أرض أحلام تعيش "بحبوحة" عيش مع طفرتها النفطية، فمثلت البديل المفضل عن الأردن ولبنان اللذين لم يعودا يحققان ذلك.

وتبدو أحداث الرواية مغرقة في المأسوية، إذ تُخْتَتَمُ حياة مجموعة من الفلسطينيين مُخْتَنِقِينَ داخل خزان شاحنة كانت تقلهم في رحلة إلى "الإلدورادو" العربي المنشود (دولة الكويت). ويلقون مصيرهم المحتوم ذاك نتيجة سلسلة من الأخطاء ارتكبت من أطراف متعددة، أراد الروائي من خلالها أن يضع اليد على بعض من أسباب تخلفنا وضياعنا، فكان الاستهتار واللامبالاة أهم عنوانين رصدهما كخاصّيتين للعربي في اختلاف مواقعه ومسؤولياته. 

وقبل أن تصل الأحداث إلى نقطة نهايتها، تتسلسل عبر حوارات تقوم بين مجموعة من شخصياتها( الطامحين للهجرة) وَمُهَرِّبِهِمْ (أبو الخَيزُران). وَيُفْرِدُ غسان كنفاني لها مساحات كبيرة، يُرْضِي بها فضول قرائه وشغفهم لمعرفة طبائعها، فيتوقف مُصَرِّحاً أو مُشِيراً إلى كثير من التفاصيل التي قد تُعِينُهُمْ على معرفة دواخلها وفهم مُسَوِّغَاتِهَا لما تأتيه من أفعال. وحاز سائق الشاحنة الْمُهَرِّبُ "أبو الخيزران" جزءاً مهمّاً من مساحة الاهتمام تلك فاق به كثيراً باقي الشخصيات. لكن ذلك لم يشفع له عند متلقيه الذين لم يحظ لديهم بأي تعاطف، بالرغم من استدعاء الروائي لماضيه وما عاشه فيه من معاناة نفسية وجسدية قد تفسر إلى حد ما غِلْظَتَهُ وجفاف مشاعره.

والرواية، كما سبق أن أشرنا، حازت شهرة كبيرة في العالم العربي، مستفيدة في ذلك من أسباب عدة منها: برمجتها - كما كان الحال في المغرب في تسعينيات القرن الماضي - ضمن مُكَوِّنِ المؤلفات الأدبية المقرر لتلاميذ البكالوريا في المرحلة الثانوية. فكان أن عرف تداولها انتشاراً كبيراً؛ حباً ورغبة من طرف بعض المتعلمين أو بدافع حرص البعض الآخر على تحقيق النجاح في الامتحان الوطني نهاية السنة. ولا يمكن أن نُنْكِرَ كذلك الدور الذي أدّاه أساتذة مادة اللغة العربية في تحقيق ذلك، فالكثير منهم كان حديث عهد بفضاءات الدرس الجامعي، حيث شكل الالتزام في الأدب والموقف قناعات تحمسوا لها، وسعوا للتعريف بها والانتصار لممثليها في الفصول كما كان الحال مع "رجال في الشمس". 

ولأن تفاعلنا مع القضية الفلسطينية كان كبيراً، فقد ساهمت سياقاتها في نهاية عقد الثمانينيات وبداية التسعينيات في زيادة الاهتمام بروايات "غسان كنفاني" بيننا، وما زلت أتذكر - وغيري الكثير من أصدقاء الدراسة وقتها أظنهم يفعلون - كيف كانت أعماله الأدبية تلك تفتحنا على نقاشات كبيرة متعلقة بواقع الحال العربي ومآلاته. وكنا نُلْفِي أساتذتنا مُتفاعلين معنا في ذلك وَمُشَجِّعِينَ لنا بقوة، بل كان الكثير منهم يتطوع خارج وقت الدرس مقدماً شروحاته وتحليلاته لها في دور الشباب والثقافة.

وكان أن نشأت بيننا وبين مجموعة من شخصيات "رجال في الشمس" ألفة ومودّة، فأصبح بعضها يرافقنا خارج الفصول إلى أحيائنا وبيوتنا، نحكي للأهل والأصدقاء مأساة "أبي قيس" و"أسعد" و"مروان" ونذم شخصية "أبي الخيزران" على انتهازيته وسوء أخلاقه، مبدين بعضاً من تعاطف خجول معه أحياناً حين نتذكر فلسطينيته ومأساته الشخصية.

وكما هو الحال مع الكثير من قرائها، فقد علقت بأذهاننا - ونحن نتابع مدارسة الأستاذ للعمل في الفصل منذ ما يقارب الثلاثين سنة من الآن - مجموعة من العبارات والجمل الواردة فيها، لعل أهمها تلك التي تلت اختناق الموجودين داخل الخزان المائي للشاحنة، مُلْقِيَةً باللوم عليهم "لِمَاذَا لَمْ يدُقُّوا جُدْرَانَ الْخَزَّان؟؟!!" فكان أن اختصرت هذه الجملة/ التساؤل برمزيتها كل الرواية وأحداثها، محيلة على واقع عربي مُوغِلٍ في التردي والعبثية.

واليوم، وبعد مرور عقود على رحيل هذا الأديب الثوري المقاوم، نسجل بكل أسف ما آلت أوضاعنا في العالم العربي من تَمَزُّقٍ وَتَشَتُّتٍ، ففلسطين لم تعد قضيتنا الأولى بالرغم من الشعارات التي ترفع هنا أو هناك، في كثير من الدول. لقد غدا لكل قطر عربي أولوياته، واتسعت الهوة بين الجميع لدرجة لم تعد "أولى القبلتين" قادرة على أداء دور الموحد كما كانت تفعل في الماضي، إذ كنا نهرع إليها لتقريب وجهات النظر كلما اختلفت الرؤى السياسية وتباعدت بين الأشقاء.

لقد تغير حال العرب كثيراً مذ رحلت يا غسان.

دلالات