الثانوية العامة بين وطنٍ ضائع وأسر حالمة

الثانوية العامة بين وطنٍ ضائع وأسر حالمة

17 يوليو 2019
+ الخط -


متلازمة كل عام مع بدء امتحانات الثانوية العامة المصرية، حالات انتحار إما وقت الاختبارات أو بعد ظهور النتيجة. فرحة بالمجموعات العالية وحالات صراخ وحزن مع المجموع الضعيف، الذي لا يفيد صاحبه. طلاب الثانوية العامة واقعون حرفيا بين مطرقة رئيس دولة يقول "يعمل إيه التعليم في وطن ضائع" وسندان أحلام أسرهم في الارتقاء على السلم الاجتماعي من خلال شهادات أبنائهم الجامعية.

ورغم ادعاءات مجانية التعليم إلا أن ما تدفعه الأسرة المصرية في المرحلة الثانوية ينفي تلك الجملة المتداولة عبر سنوات طوال، ملايين تدفع سنويا من الأسر حتى تعالج بها مشاكل تسببت بها الحكومات المتعاقبة، أبرزها وجود معلمين غير مؤهلين، فصول دراسية مكدسة، ناهيك عن كونها غير مناسبة في معظمها للاستهلاك الآدمي.

كان التعليم مجانياً بالفعل وكان إلزاميًا حسب دستور 1923 ماعدا التعليم الجامعي كان

بالمصروفات، ولعدد محدود من أبناء كبار الملاك الزراعيين والتجار وكبار موظفي الدولة. ومع تولى عميد الأدب العربي مهام وزارة التعليم فى 12 يناير 1950، أصدر قرارا في 1951، بمجانية التعليم الثانوي، اتساقاً مع فكرة أن التعليم كالماء والهواء. وأيدته ثورة يوليو حتى أتت تعديلات الدسنور في مارس/ آذار 1966 مؤكدة على مجانية التعليم، حيث نص في المادة 39 على إشراف الدولة على مراحله المختلفة في مدارس الدولة وجامعاتها بالمجان.

وحسب ما يقال إن علاقة التعليم بسوق العمل في الحقبة الناصرية كانت جيدة، وكانت الدولة تحرص على أن تستثمر الأموال فى البحث عن فرص عمل للطلاب، وتمثلت في أن الطالب بعد التخرج ينتظر خطاب وزارة القوى العاملة بتعيينه، وصنع نظام اقتصادي خدمي، وهذا ما أدى إلى أنه حتى نهاية الحقبة لم يكن هناك بطالة.

ظهرت الأزمة لاحقا حينما امتلأ الجهاز الإداري للدولة بعدد موظفين زيادة على متطلبات العمل والمكان، وللأسف لم تقم أي من الحكومات السابقة واللاحقة بحل تلك الأزمة، بوضع منظومة متكاملة تخص التعليم وتطوير مناهجه وأدواته، وتم إهمال مراكز البحوث وتطويرها، بعدم وضع بند قوي في الميزانية كما تفعل الدول المحترمة التي تتجه نحو التقدم العلمي لتكون في مصاف الأمم. وكانت النتيجة هي وجود خريجين في مجالات مختلفة بلا سوق عمل مناسب، لتتجه المشكلة إلى منحى آخر وهو عدم وجود خطة اقتصادية شاملة كاملة قصيرة المدى أو بعيدة المدى لاستيعاب آلاف الخريجين كل عام. كل ما يتم عمله ويسمى تطويرا، هو إما إلغاء السنة السادسة في المرحلة الابتدائية، أو تغيير نظام الدرجات في الثانوية العامة من النظام التراكمي، أو باعتماد الدرجات على السنة الثالثة الأخيرة في تلك المرحلة.

حتى التعليم الفني بشقيه، التجاري والصناعي، تم إهماله بشكل متعمد ولم يتم تطويره، وأغلب المهن تتم بالتواتر، وأجيال تسلم الراية لأجيال، بجانب النظرة الفوقية العنصرية لخريجي تلك التخصصات، وظهور مصطلح "كليات القمة"، ويقصد بها كليات "الطب والهندسة والصيدلة والإعلام والعلوم السياسية"، وما عداها كليات تجلب لصاحبها الإهانة.

تلك الرغبة الشديدة في المجموع الكبير بغض النظر عن جودة التعليم أو عدمها، والتي ظهرت واستفحلت مع نظام مبارك، ظهرت معها الدروس الخصوصية والتي لم تعد قاصرة فقط على الشهادات الرئيسية كالإعدادية والثانوية وغيرها، بل بدأت من مراحل الروضة، حتى وصلت للجامعات.

وهنا برز التعليم الخاص، فبعدما كان قاصراً على الطلبة أصحاب المجموع الضعيف، تطور الأمر وأصبح سمة من يملك، ومن يفشل في الالتحاق بالكلية المرغوبة بسبب المجموع ومكتب التنسيق، التحق بالجامعات الخاصة التي ملأت أنحاء الجمهورية. لكن المحصلة النهائية لا شيء وإن استفاد خريجوها بالوظائف المميزة، وعانى ويعاني خريجو الجامعات الحكومية من البطالة، ولم يعد مستغرباً أن تجد طبيبا يعمل على تاكسي، أو كبائع للبضائع الصينية الرخيصة.

وبرز توجه آخر وهو الرغبة في الالتحاق بالكليات العسكرية والحربية، وهدف تجاوز اختبار كشف الهيئة فتح بابا لا يغلق من دفع الرشاوى التي وصلت لأرقام فلكية، ليس حبًا في الوطن والاستشهاد بنسبة كبيرة، لكن طمعاً في حجم الامتيازات التي يتمتع بها خريجوها، من نواد ومستشفيات وصلاحيات حيث اجتمعت لهم ثنائية المال والسلاح. رئيس الدولة نفسه حريص على التواجد بينهم في مقابل تجاهل تام لخريجي الجامعات الأخرى، ولا يعترف بقيمة العلم وله مقولة شهيرة "يعمل إيه التعليم في وطن ضائع".

لهذا هناك تساؤل: هل هناك داع لكل هذا التوتر الذي لا ينتهي، وهذه المبالغ التي تدفع كل عام في الدروس الخصوصية على تعليم متدن وأصبح خارج تصنيف المنظومة العالمية منذ زمن، ولم يعد لأكاديمييها سمعة حسنة؟ لهذا أجد أنه إذا كان هناك بد من دفع تلك المبالغ، فأقترح أن تكون في التعليم عن بعد أو لو استطاعوا إرسال أبنائهم إلى الخارج كفرصة لتعليم حقيقي يساعد على تفجير المواهب، أو رعاية العباقرة والاستفادة منهم في بلاد تقدر قيمة العلم والعلماء.

دلالات

5561B2C3-AF42-4F3D-B8F3-FF483E70F8EC
صفية عامر

مهتمة بالشأن العام المصري والعربي والإسلامي. عاشقة للدراما التليفزيونية والسينما والنقد الفني، عاشقة لمرحلة كلاسيكيات السينما والأبيض والأسود. أهوى الشعر.