في أحضان الدوحة

في أحضان الدوحة

16 يوليو 2019
+ الخط -

 تظل أحلام الزمن الجميل، الذي قضينا بعض ما كنا نشتهي من أيام، وتركت في كلٍ منا ما يُلفت نحو ما أحدثته وتركته تلك الأيام من أثرٍ طيّب لدى كل من عاشها واستأنسها، فكانت بمثابة الألف ميل التي تبدأ بخطوة.

 وتنوّعت المحطّات التي توقفنا عندها على مدى السنوات التي عشناها، ونحاول في هذه المحطّة أن نتوقف في الدوحة، المدينة القطرية الجميلة التي تركت فيّ حبّاً جارفاً، وزرعت في داخلي رغبة في العودة إلى أيام سارّة كنا قد قضيناها رفقةً مع عددٍ من الأصدقاء والمعارف وزملاء المهنة الذين فرحنا وأُسعدنا باللقاء بهم ومعهم، بعد أن كنا نسمع عنهم من خلال ما ينشرون في الصحف المحلية القطرية، وفي مجلة الصقر الرياضية بصورةٍ خاصة التي نقبل على متابعتها وقراءة ما تتضمنه من تحقيقات، وريبورتاجات، وحوارات مطولة مع نجوم الكرة، ومقالات متفرّدة لكبار الكتاب، فضلاً عن الأخبار المشوّقة التي كانت تفرد لها صفحاتها الملونة بإشراقتها، وبورقها المصقول.

 

وكانت فرصة ذهبية لا يمكن لها أن تتكرر في أن تكون أيام ما زلنا نسعى إلى أن نحافظ عليها، وتذكرها يظل مَبعث حُب واحترام، تركت مع من التقينا بهم كل الود والنبل والاحترام اللامتناهي وفي جو أسري، ولا أجمل. ومن يزُر الدوحة، في كل وقت فإنه من الطبيعي أن يحنّ إليها، وإلى أيامها التي تركت فينا رضا وحباً متجدداً لم يكن ليتحقق لو لا نزاهة العلاقات التي ربطتنا مع أصدقاء أحبّاء، أوفياء مخلصين لا همّ لهم إلاّ غرس بذور المحبّة والصدق المجبول بالوفاء والإخلاص، وهذا ما كان. 

وقبل حضوري إلى الدوحة، بزمن ليس بالقصير، راودني الحلم الذي سبق أن حققته، وهو ما دفع إلى أن يتجسّد إلى واقع ملموس، وهذا ما صار.

وكنت، كلّما أحطّ الرحال في مطار دمشق الدولي قادماً من مدينتي الفراتية الرَّقة، مع ساعات الصباح الأولى، حاملاً حقائبي ومتوجهاً إلى الولايات المتحدة الأميركية، ينبعث صوت المذيع الداخلي في المطار ينادي الركاب المسافرين إلى الدوحة ـــ قطر التوجّه إلى البوابة المخصصة للسفر إليها. ويكرّر المذيع الصوت لمرة واثنتين، وفي هذه اللحظات، كنت أمنّي النفس لو أن سفري كان إلى الدوحة بدلاً من التوجّه الى بلاد العم سام، وصخبها، التي لم أحبها يوماً على الرغم من أن أميركا تظل حلم الجميع، بلاد العجائب بلا منازع!

وفي الغالب فانّي أقف مندهشاً لمجرد هذا النداء، وفي جميع مواعيد سفري إلى الولايات المتحدة، لأن أغلب مواعيد الطيران المسافر إلى الدول التي ترتبط بخط ترانزيت إلى تلك البلاد تكون مواعيدها صباحية، وتتزامن مع موعد رحلة طيران المها القطرية إلى الدوحة، فأضطر مرغماً "أخوك لا بطل" إلى الالتحاق بالطائرة الملكية الأردنية المتوجهة إلى عمّان، ومنها إلى أوروبا، وإلى الوسط الأميركي متجاوزاً المحيط الأطلسي وساحله، ومنه إلى وجهتي التي اختارها في كل مرّة سواء إلى ولاية لويزيانا، كاليفورنيا، أو كولورادو، تاركاً المذيع داخل المطار ينادي ركّاب الطائرة المتجهين إلى الدوحة.

 وظلّ الحلم يكبر ويكبر، ويعتصر قلبي شوقاً لها، وبعد سنوات حصلت أخيراً على تأشيرة سفر للدوحة، وسافرت إليها، وأنا كلّي غبطة. وفي مطار دمشق كنت أتذكر ما كان يحدث معي أثناء سفري إلى الولايات المتحدة، وفي هذه المرّة فإنَّ الحال اختلف كثيراً، فأنا مسافرٌ إلى الدوحة مباشرةً، البلد الذي لطالما حلمت بالذهاب إليه يوماً والعيش فيه، وأنا في سنّ صغيرة.

وصلت الدوحة، ونزلت ضيفاً عند عدد من الأصدقاء من أهل مدينتي، حيث كانوا يقيمون في مساكن عمّالية بسيطة، خدماتها لا تسرّ، وأعدادهم كبيرة لا يتجاوزون العشرين ويقيمون في ثلاث غرف صغيرة الحجم مبنية من البلوك الإسمنتي ومغطاة بالصفيح، الذي لا يُطاق في فصل صيف الدوحة الحار!

ظللت على هذه الحالة أكثر من أربعة أشهر ونيّف، وزرت في أثناء ذلك مباني دار الشرق للصحافة والطباعة والنشر، والوطن والراية، وأسرة مجلة الصقر الرياضية قبل احتجابها بعام واحد.

كانت فرحتي لا توصف، لا سيما أنَّ زيارتي كانت جزءاً من الحلم الذي كان ينتابني منذ الصبا، وتعرّفت على عدد من الزملاء الصحافيين العاملين في الصحف الثلاث، فضلاً عن محرري مجلة الصقر.

ومن بين الأسماء التي تعرفت عليها في حينها الأستاذ سعد محمد الرميحي رئيس تحرير مجلة الصقر، وعدد من العاملين في المجلة كالأستاذ المبدع محمد بنيس، منصور الشيخ، مبارك عمر سعيد، طيّب الله ثراه، ومجدي زهران، كما زرت مبنى جريدة الراية والتقيت بالصديق الصحافي أسامة سعد الدين، وهو سوري من ريف مدينة حلب، كما تعرفت إلى الأستاذ صادق محمد العمّاري رئيس قسم المحليات في الصحيفة، رئيس التحرير الحالي لصحيفة الشرق.

وفي صحيفة الشرق تعرّفت إلى الأستاذ، طيّب الله ثراه، منتصر الديسي رئيس قسم التحقيقات، والى بقية الأخوة المحررين، ومنهم: الشاعر جاسم سلمان مدير تحرير الشرق الحالي، والصديق الأنيق سجّاد العيّاشي، وغيرهم... إضافة إلى الزميل المجتهد الرائع مجدي زهران الذي كان يترأس القسم الرياضي في الشرق، إضافةً إلى عمله في مجلة الصقر محرراً عاماً..

كانت الرحلة إلى أحضان مدينة الدوحة القطرية بحق لها نكهتها، وذوقها المجبول بالحب الذي لم يسبق لي أن لامسته في السفر، أو الإقامة في أي دولة بعينها التي سبق لي أن زرتها في غير مرّة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية. 

الحياة في الدوحة، والتجوّل في أرجائها، واللقاء بأهلها وبالأصدقاء والزملاء الجدد من صحافيين، شعراء وكتاب ورجال أعمال وأشخاص عاديين من بقية شرائح المجتمع، وحتى العمّال العاديين كنت التقيت بهم في أماكن عملهم، وتعرّفت على أغلب من كنت سمعت بهم من ذي قبل، كل هذا كان له وقعه في النفس التي كانت تمني التعرف عليهم واللقاء بهم.

وفي فترة زيارتي القصيرة نشرت لي مجلة الصقر، التي بادرت إلى زيارة أسرة تحريرها، مادة صحافية في صفحتها الأخيرة بتوجيه من الأستاذ، طيّب الذكر، سعد محمد الرميحي رئيس التحرير المسؤول، كما نشرت لي كل من جريدتي الراية والوطن أكثر من مادة صحافية، إضافة إلى تحقيق موسّع في جريدة الوطن، فضلاً عن أن المرحوم منتصر الديسي رئيس قسم التحقيقات في جريدة الشرق كلّفني بكتابة مادة تحقيقية أنجزتها ونشرت متضمنّة الصور، وكنت في تلك الفترة، في أثناء زيارتي الدوحة اشتريت آلية ثقيلة "نشّال" لنقل الرمال وبقايا المقالع والأبنية التي يصار إلى هدمها بهدف تجديدها، والعمل على ترحيل الأنقاض إلى أماكن خاصة بها، أو ردمها لجهة حاجة الأبنية التي تبنى من جديد. 

بقيت على هذه الحالة لأكثر من أربعة أشهر، وكنت أرافق سائق الآلية بين فترة وأخرى إلى مواقع العمل، هرباً من حالة الملل التي كنت أعاني منها، وفي أوقات الفراغ كنت أتردد إلى أماكن الصحف واللقاء بزملاء المهنة التي أعشقها باحثاً عن العمل فيها.

وبعد مضي الأشهر الأربعة الأولى من وجودي في الدوحة، وبسبب كثر أعطال "النشّال"، حزمت أمتعتي لأعود إلى الرَّقة، التي ظللت فيها حوالي سبعة أشهر، وكنت في وقتها أمني النفس بالعودة من جديد إلى الدوحة التي فضلت العيش والاستقرار فيها، وفي تلك الفترة كنت أرسل للزميل منتصر الديسي، رسائل مكثفة عبر الإيميل أعلمه فيها برغبتي في العودة إلى الدوحة والعمل في جريدة الشرق في حال سنحت هناك فرصة عمل ما، وبجهوده الشخصية بذل الكثير من الوقت حتى تمكن من إقناع رئاسة التحرير والإدارة بالموافقة على العمل في قسم التحقيقات في الصحيفة، وهذه شهادة لا يمكن أن أغفلها أو أتغاضى عن ذكرها.

بعد فترة قصيرة لم تتجاوز الشهرين أرسلت إدارة جريدة الشرق نسخة عن عقد العمل، وما يتضمّنه من اشتراطات، وأرسلته بدوري، بعد الموافقة على الشروط الواردة فيه، وبعد فترة أرسلت الشؤون الإدارية في الجريدة صورة عن تأشيرة العمل، وكانت فرحتي كبيرة في العودة إلى الدوحة والعمل في جريدة الشرق التي التحقت بها بتاريخ 14/4/2008.

وصلت الدوحة في زيارتي الثانية، واستقبلني الأستاذ منتصر الديسي في مطارها، وذهبنا رفقةً إلى مبنى السكن العائد للجريدة، ونمت أول ليلة في تلك الشقة التي تعود ملكيتها للجريدة وتضمّ عدداً من المحررين والفنيين في طابقيها الأول والثاني.

في اليوم التالي، ذهبت متشوّقاً إلى مبنى الجريدة للقاء الزملاء المحررين العاملين في قسم التحقيقات في الشرق، كما التقيت بالأستاذ جابر الحرمي رئيس التحرير في حينها، الذي رحّب بي ووجهني ببعض الملاحظات الخاصة بالعمل، وبكل احترام، كما هو معروف عنه، كما التقيت المدير العام لدار الشرق عبد اللطيف المحمود الذي كانت له بعض الملاحظات والرؤية بما يخص العمل في الجريدة.

في اليوم الخامس من وصولي كلفني الزميل رئيس قسم التحقيقات بإجراء أول تحقيق عن السوق المركزي للخضار والفواكه، ما دفعني إلى استئجار سيارة أجرة للذهاب لإنجاز أول مهمّة رسمية لي مع الشرق..

وأتبع التحقيق الأول، إجراء العديد من التحقيقات، وجميعها بحاجة إلى سيارة للنقل، وهذا لم يعفِني من استخراج شهادة سوق قطرية لأتمكن من قيادة السيارة الخاصة الصغيرة التي اشتريتها في ما بعد، وكانت كما يقال في مثلنا الدارج "خَيط الفِطام"، أي أنَّها تظلّ حاجة ضرورية وملحّة في متابعة ما يطلب من مواد صحافية وإنجازها في وقتها. 

ظللت في صحيفة الشرق نحو خمسة أشهر، وأنجزت عدداً كبيراً من التحقيقات الصحافية المهمة، ولطالما أشاد بها رئيس القسم، ويطلب من الزملاء العاملين في القسم إنجاز مثالها من حيث الحجم، برغم المشكلات التي كنت تعرضت لها أثناء قيامي بالعمل إلاّ أنَّ الأيام التي قضيتها في الدوحة، وفي جريدة الشرق وتعرفي على عدد كبير من الزملاء الصحافيين المخضرمين في بقية الأقسام كان له أكبر الأثر في حياتي المهنية ومن أجملها، ما يعني أنني أرغب في العودة إلى الدوحة من جديد واللحاق في العمل في جريدة الشرق ـــ الحلم الذي أرجو أن يتحقق للمرة الثانية، وهذا ما أسعى جاهداً إليه.

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.