اطمئنّ

اطمئنّ

16 يوليو 2019
+ الخط -
في حادث حزين صحوت منذ أيام على إلقاء أحد جيران المنطقة التي أسكنها بالقاهرة نفسه من الطابق الخامس حيث يسكن وحيدا مع كلبه. ومما فطر قلبي أكثر ما عرفته من أنه أطلق الكلب للشارع قبلها مباشرة بلا رباط، ولمّا نبهه حارس الأمن، وجده ذاهلا فاقد التركيز وغير معنيٍ بالرد عليه، ثم فوجئ بصوت ارتطام مريع بعدها بدقائق!

كم مسّني أنه أشفق على الكلب من أن يشهد الحادث فينكسر قلبه عليه، ولم يُعِر جيرانه والناس في الطريق أي قدر من تلك الشفقة! ووجدتني آسى على الحال وأتساءل ترى كم من الخذلان والإدبار أصابه من الناس؟ وكم من التعاطف والإقبال وجده من ذلك الكلب؟! ولماذا إذن نتعجب بمنتهى الجهل من "موضة" تربية الكلاب!

أعرف بعدها أن الرجل صاحب شركة في منتصف العمر وقد مرّ بضوائق مالية ضاغطة، فأفلس وخنقته الديون، ورأى أنه عاجز تمام العجز عن الخروج من أزمته، فأنهاها بطريقته المحزنة!

الأحوال الاقتصادية مؤخرا أصبحت سببا للكثير من مثل ذلك. البعض يقتل نفسه عجزا أمام الفقر، والبعض يقتل أبناءه قبله خشية إملاق حتى لا يعانوا ما يراه ظروفا قاصمة لا فرج معها أبدا. والبعض يصاب بالاكتئاب ويغادر بروحه حتى ولو ظل جسده معنا. وأمام كل هؤلاء لا ينكر ذو حدٍ أدنى من الشعور ما يقاسيه الأب إذا عجز عن توفير قوت عياله. لكن هل حقا لم يكن هناك أي أمل لكل هؤلاء؟ وهل مخاوفهم ومخاوفنا جميعا لا تجد أبدا فسحةً للسكون والطمأنة؟

من المتفق عليه أن علوم الاقتصاد في عمومها تعتمد على نظرية حاكمة أساسية مفادها أن موارد البشر محدودة، وأن الكعكة التي نقتات عليها جميعا مهما كبر حجمها فهو ثابت، وهي ضئيلة أمام احتياجات المخلوقات وأعدادها المتزايدة. وبالتالي فالاقتصاد العالمي في جوهره هو صورة من صور محاولة إدارة الصراع بين من يفوزون بأكبر قطع الكعكة، وبين من يحظون بالفتات، أو أولئك المساكين الذين يفوتهم الفوز بأي شيء على الإطلاق ويُتركون نهبا لتهديد الوجود.

لكن المثير حقا أنك لا تجد أثرا لهذا المعنى في مرجعية الإسلام كلها. بل يتبنى الدين وجهة النظر المعاكسة، والتي لا تفتأ تؤكد أن الموارد كلها مفتوحة ومتسعة اتساع مُلك المَلك العظيم الكريم المنعم القادر الوهّاب المتكبر القابض الباسط، وهو مَن يهبها لمن يشاء وقت يشاء وكيف يشاء. "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير".

وما التكرار العجيب لعبارة "وهو على كل شيء قدير" ومترادفاتها في طول القرآن وعرضه إلا إثبات لعموم قدرة الله وإحاطتها بكل شيء فعلاً. تأكيد مستمر ودائب لرسالة تقول: اهدأ... أنا معك.

أتأمّل في هذه المفارقة وأجدها بصورتها هذه تتكرّر في كل نواحي حياتنا لا في الاقتصاد فحسب. فبينما تخيفنا معرفتنا العقلية بتفاصيل الدنيا وتملأنا توجسا وحرصا وقلقا بشأن كل شيء، يتولى الدين قلوبنا بكل أسباب الطمأنة الممكنة، محاولا دائما أبدا انتزاعنا من جحيم الخوف والتوتر والاستنزاف النفسي المستمر، لواحات السكينة والهدوء والارتكان للقويّ القادر على تذليل كل صعب.

فعقولنا تحيط بالمحسوس من مفجرات الصراع، وتستنفر قوانا للمشاركة فيه وكأننا الفاعل الوحيد، وقد تستسلم لحسابات القوة والضعف فتدفع اليائس للانتحار مثلا. فيما الدين يأخذ بأيدينا لما فوق المحسوس من أسباب السكينة، مؤكدا أن وراءنا دوما فاعلٌ أقدر وأقوى وأحكم، فلا نيأس ولو تحت ضغط أدق الحسابات التي تؤكد حتمية الهزيمة.


الشاهد... اطمئن. أنت لا تدبر الأمر. هناك قادر حكيم جبّار يفعل ذلك عنك طوال الوقت. بيده المُلك ولا حول ولا قوة ولا اطمئنان إلا بالركون إليه.
6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى