مخطط لتدمير مصر بالإيدز يقوده سائح أميركي (2/2)

مخطط لتدمير مصر بالإيدز يقوده سائح أميركي (2/2)

15 يوليو 2019
+ الخط -
ما أضفى على قضية السائح الأميركي الذي يقود مخطط تدمير مصر بالإيدز مزيداً من الإثارة، هو كشف صحيفة (الأخبار) أن المتهم الأميركي لم يكن عاطلاً عن العمل كما قيل، بل كان يعمل أحياناً في تدريس اللغة الإنكليزية في أحد المراكز المتخصصة، بالإضافة إلى حصوله على معونة شهرية من السفارة الأميركية بالقاهرة، وأنه كانت تقيم معه في الشقة فتاة إنكليزية اسمها سارة، "ولكن لا علاقة بينهما فهي لها عالمها الذي تحياه حيث تحترف البغاء" طبقاً لنص ما نشرته الصحيفة، التي أشارت إلى أن سارة الإنكليزية اختفت بمجرد عرض شريك سكنها على المستشفيات، وأن أجهزة البحث توالي جهودها للكشف عن مكان اختفائها.

الغريب أن محرر الصحيفة لم ينشغل بمحاولة سد الثغرات العديدة الواردة في تغطيته للواقعة التي اتسمت بصياغات غامضة تزيد القارئ ريبة وقلقاً، بل قرر أن يتوجه إلى وكيل وزارة الصحة للشؤون الوقائية الدكتور فتحي شيبة ليسأله عن مدى قيام وزارة الصحة بواجبها في حماية مصر والمصريين من الإيدز الذي يحمله بعض الأجانب، فأكد له الدكتور فتحي أن الوزارة تقوم بإجراء الفحص المعملي للأجانب القادمين من الخارج للإقامة في مصر لمدة تزيد عن شهر سواء للعمل أو الدراسة، وحين سأله الصحفي عن إمكانية فحص الأجانب بشكل عام في المطار قال له الدكتور: "بالطبع لا، كيف يتم فحص كل الأجانب في المطار، ولا توجد دولة في العالم تفحص زوارها في المطارات، قل لي كيف يمكن مواجهة مئات الآلاف القادمين يوميا، هل من الممكن أن أجري لكل سائح اختبارات الإيدز؟"، مشيراً إلى أن الوزارة تقوم بفحص حوالي ألف مواطن شهرياً من الفئات الأكثر تعرضاً للمرض "وهم مرضى الأمراض التناسلية ومدمنو المخدرات بالعيادات النفسية ومحترفو التبرع بالدم ونزلاء السجون في قضايا الآداب ومرضى الحمى التي لا يمكن تشخيصها ومرضى سيولة الدم"، وأن هناك 154 بنكاً للدم على مستوى الجمهورية لديها أجهزة فحص الدم الخاص بمرض الإيدز، نافياً ما أثير حول رفض بعض المستشفيات فحص عينات الأميركي والأحداث لعدم وجود أجهزة بها، قائلاً إن ذلك اتهام كاذب.

ولكي يطمئن مسؤول وزارة الصحة قراء الصحيفة على يقظة أجهزة الدولة، زف لهم بشرى ضبط 80 أجنبياً من المقيمين بمصر من مرضى الإيدز، تم ترحيلهم إلى بلادهم، " أما العينات التي أخذت من 30 ألف مصري خلال الثلاث سنوات الماضية فكانت كلها سلبية"، وحين سأله محرر الصحيفة عما إذا كان هذا يعني أنه لا يوجد مرضى مصريون بالإيدز؟ أجابه قائلاً: "لا، يوجد 46 مواطناً مصرياً مريضا بالإيدز، ولكنهم أصيبوا جميعا خارج مصر، بسبب إجراء جراحات في بعض الدول العربية أو أثناء عملهم في بعض الدول الأجنبية"، فلم يسأله الصحفي هل يمكن اعتبار الأحداث الستة أول مصريين يصابون بالإيدز داخل مصر، إذا كانوا قد أصيبوا به أصلاً، لكنه سأله: "كيف نقي أنفسنا وأولادنا من هذا المرض؟"، فقال له: "السلاح الوحيد لهذا هو العفة بعدم ممارسة العلاقة الجنسية غير المشروعة والشاذة"، دون أن يشير إلى أي وسائل لانتقال الإيدز لا علاقة لها بالعفة مثل نقل الدم الملوث والسرنجات الملوثة. 

 

ودون أن توصل الصحيفة "القومية" لقرائها أي معلومات قاطعة تخص هذه القضية المثيرة للبلبلة والتي يمكن أن تسبب حالة ذعر لدى الكثيرين في عدة قطاعات على رأسها قطاع السياحة المهم للبلاد، أنهت موضوعها الذي أفردت له صفحة بأكملها بقولها: "نتمنى ألا تتعجل السلطات الأمنية المصرية في ترحيل السائح الأميركي قبل التأكد من هويته السياسية والحصول منه على إجابات محددة حول هذه العلاقات الشاذة التي افترس فيها أولاداً مصريين، وألا تكون إشاعة الإيدز شماعة لترحيله بلا تحقيق وبلا محاكمة من مصر التي فتحت له ذراعيها فردّ الجميل بإفساد أولادها وممارسة الفجور الذي جزاؤه السجن".

في اليوم التالي مباشرة لم تقم (الأخبار) بمتابعة القضية برغم أهميتها، لأنها انشغلت بموضوع آخر هو وقوع أحداث طائفية "مؤسفة" في المنيا، تسببت فيها إشاعات كاذبة بوجود شقة في المنيا "للتغرير بالفتيات المسلمات" طبقاً لما نشرته الصحيفة، وهو ما نتج عنه إحراق متظاهرين مسلمين في أبو قرقاص والمنيا لثلاثة كنائس والعديد من الصيدليات والمحلات التجارية والمنازل والسيارات التي يمتلكها مواطنون مسيحيون، وحين سألت الصحيفة بعض من شاركوا في أحداث التخريب عن سبب اشتراكهم فيها قالوا إنهم سمعوا أن حوالي 28 شاب مسيحي قاموا بعلاقات غير شرعية مع 28 بنت مسلمة "بطريقة إرهابية"، وهي عبارة نشرتها الصحيفة دون أن تفسرها للقراء، لكنها حرصت في الوقت نفسه هي وجميع الصحف الحكومية على أن تؤكد أن الأوضاع تحت السيطرة، وأن العلاقات بين المسلمين والمسيحيين أكبر من أن تهزها هذه الأحداث المؤسفة التي تقف وراءها جهات خارجية لا ترغب لمصر في الخير والاستقرار. 

خلال الأيام التالية، تراجعت قصة السائح الأمريكي لتحتل مساحات متناهية الصغر في ثنايا صحيفة (الأخبار)، في حين اختفى ذكرها تماماً في التغطية الخبرية اليومية لصحيفتي الأهرام والجمهورية الحكوميتين وصحيفة الوفد المعارضة، واكتفت (الأخبار) بالإشارة إلى انتهاء إجراءات ترحيل السائح الأمريكي المتهم والذي لم يعد مريضاً بالإيدز بل تم وصفه بأنه "الذي أشيع عنه أنه مصاب بمرض الموت الإيدز"، ودون أن تستخدم الصحيفة خطابها الوطني المطالب بعدم التسامح مع جريمة إفساد فتيان مصر التي ارتكبها الأمريكي، أشارت بشكل عادي إلى أنه تم الإفراج عنه بكفالة فيما لا زالت الشرطة تبحث عن شريكة سكنه البريطانية الهاربة.

وفي يوم السبت 13 إبريل 1990 الذي تصدر فيه صحيفة (أخبار اليوم) بدلاً من شقيقتها (الأخبار) نشرت الصحيفة تحت عنوان "الأمريكي تشارلز يهذي قبل ترحيله: سأعود ثانية"، كاشفة أن ترحيل ويليام تشارلز تأخر بسبب إصرار السفارة الأمريكية على معرفة عنوانه بأمريكا لمحاسبته على ثمن التذكرة التي دفعتها له، وأنه طلب من رجال الأمن الذهاب إلى شقته لإحضار متعلقاته قبل سفره، لكن رجال الامن رفضوا خوفاً على حياته، بعد أن وصلتهم معلومات أن أهالي المنطقة هددوا بالفتك به إذا شاهدوه، وأن تشارلز قال قبل ركوبه الطائرة إنه لن يلتفت للقرار الذي صدر بمنعه من دخول مصر مرة أخرى، وأضاف أن صديقته الإنجليزية تمكنت من مغادرة البلاد إلى إنجلترا، وأنه سوف يلتقي بها بعد وصوله إلى أمريكا، ليعفي بذلك أجهزة الأمن من مشقة مواصلة البحث عنها. 

بالطبع، لم يطلب أحد من صحيفة (الأخبار) ولا من مسئولي وزارتي الداخلية والصحة، توضيحاً قاطعاً حول حالة المتهم الأمريكي الصحية وما إذا كان الأحداث الستة قد أصيبوا بالإيدز أم لا؟ ولم يطلب أحد من الصحيفة اعتذاراً عن نشر أسماء الأحداث الستة وعناوينهم، ولم يهتم أحد بمتابعة موقفهم مع أسرهم وما إذا كانوا يحتاجون إلى مساعدة صحية أو نفسية أو اجتماعية، وبينما تواصل نشر عشرات المقالات والموضوعات التي تحذر المصريين من المؤامرة الخارجية التي ترغب في نشر الإيدز بين شباب مصر الأطهار، لم تهتم الصحف بالتركيز بنفس القدر على خطورة الدور الذي يلعبه الفساد والإهمال في نشر الإيدز وغيره من الأمراض الخطيرة التي تنتقل عبر الدم الملوث والإبر الملوثة. 

ولذلك كله لم يكن غريباً أن تحتفي الصحف والمجلات بعدها بأشهر بالبدء في تصوير عملين سينمائيين يناقشان قضية خطورة مرض الإيدز، أولهما بعنوان (الحب في طابا) للمخرج أحمد فؤاد يحكي عن إصابة ثلاثة أصدقاء مصريين بالإيدز بعد ممارستهم الجنس مع ثلاث سائحات "مشبوهات" في شرم الشيخ المليئة بالسائحات الإسرائيليات المنفلتات، وثانيهما بعنوان (الحب والرعب) للمخرج كريم ضياء الدين يحكي عن طبيبة مصابة بالإيدز تقوم بنشره بين من ترتبط بهم بعلاقات جنسية، ويقوم بعض الأشرار بخطفها لاستخدامها في قتل زعيم عصابة منافسة بنقل الإيدز إليه، وبالطبع لم يكن غريباً أن يروي الفيلم أن الدكتورة التي تحولت إلى سلاح لنشر الإيدز، كانت عائدة إلى مصر من أمريكا.

للأسف، مضى وقت طويل ساهمت فيه وسائل الإعلام المختلفة في نشر الخرافات والأوهام عن مرض الإيدز التي ساهمت في دفع كثير من المصابين به إلى رفض البحث عن مساعدة طبية، لتنتج عن ذلك عشرات من المآسي التي كان يمكن تفاديها لو تحلى الجميع بالمسئولية وأتقنوا أداء مهامهم بما يرضي الله، وبعد سنوات من التجاهل والإنكار والتخبط ونشر الجهل، كشفت دراسات رسمية صدرت قبل سنوات أن كثيرين أصيبوا بالإيدز لأسباب لا علاقة لها بالعفة ولا بالسياح الراغبين في تدمير الشباب، فقد أصيب 12 في المائة من حاملي المرض به عن طريق وحدات غسيل الكلى الملوثة، وأصيب حوالي 6.2 في المائة من حامليه نتيجة لنقل الدم الملوث وأصيب حوالي 2.9 في المائة به عن طريق الحقن الملوثة المستخدمة في تعاطي المخدرات، طبقا لتقارير رسمية شكلت نقلة في التعامل مع مرض الإيدز، الذي ضاع الكثير من وقت المصريين والعرب قبل أن يدركوا أنه لم يكن جزءاً من مؤامرة موجهة ضدهم، لأن الدول التي اتهموها بالضلوع في المؤامرة كانت الأكثر ابتلاءً به، وكانت أيضاً الأكثر انشغالاً بمكافحته وعلاجه. 

ولا زال النيل يجري.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.