الجنة كان اسمها بيروت (الأخيرة)

الجنة كان اسمها بيروت (الأخيرة)

11 يوليو 2019
+ الخط -
خرجنا من حدود المنطقة الآمنة وبدأنا ندخل في مناطق تعرضت للقصف، كلما اقتربنا من جسر أو وقفنا تحته تملكنا الرعب، ليس فقط لأن الذاكرة تضايقنا بما اختزنته من صور القتلى على الجسور وتحتها وحولها، بسبب كونها الأهداف الأكثر استهدافا من الطائرات الإسرائيلية، لكن لأن صور الذاكرة تكون أكثر فعالية مع صوت هدير الطائرات الحربية الإسرائيلية، كلما عبرنا جسرا سالمين شكرنا الله على حفظه لنا.

استسخفت نفسي جداً فانسحبت من لعبة القلق هذه بقرار فردي، قررت أن أعيش في دور الرحالة الذاهب في رحلة استكشافية إلى سوريا، تذكرت ما قاله لنا السائق السوري ونحن قادمون إلى بيروت بالطائرة: «حدا بيروح بيروت بالطيارة؟»، كان لديه حق، فالرحلة استغرقت ثلث ساعة فقط، إذن لنعتبر أن الفرصة قد سنحت لدينا للذهاب برا إلى سوريا والاستمتاع بالمناظر الخلابة التي تملأ الطريق، أتذكر التفسير الطائفي لصديقي جعفر بقوة وأنا أشاهد حرص السائق على أن يمر في المناطق المسيحية فقط.

بدأنا صعود الطريق الجبلي المتجه إلى شتورة ـ زحلة، كلما أخذنا في الصعود زاد الهواء برودة وزاد ضغط الهواء إثقاله على طبلتي الأذن. كلما نظرت حولي أوجعني قلبي عندما أتذكر أن كل هذا الجمال يمكن أن يضيع في لمحة بصر، كأنك في قلب أجمل بقاع أوربا دون مبالغة، الأسفلت كأنه حرير ينساب وسط الفيلات والقصور والعمارات الفاخرة المتناثرة في أنحاء الجبال مطلة على بيروت التي تحترق في الأسفل والتي نبتعد عنها دون أن نكلف أنفسنا عناء النظر إلى الخلف، في مكان ما نشاهد أسرة رايقة قررت أن تنسى كل مايحدث في لبنان وتخرج لعمل «بيكنيك» وأخذ عائلها يشوي اللحم في جزء من الطريق وسط الأشجار الباسقة والهواء العليل والجو الحلو، ربما انتهزوا فرصة ارتباك الدولة المرتبكة أصلا فقرروا أن يخرقوا تحذيرات مصلحة الغابات بعدم إشعال نار في الغابة، ربما لأن لبنان كله يحترق وما عادتش فارقة، لتحترق الغابة بأيدي أبنائها إذا كانت عما قريب ستحترق بنيران قصف العدو. أخذت شتائم السائق تنهال عليهم، وربما جعلني ذلك من باب حب المخالفة له أفكر في ما يقومون به على أنه ربما كان نوعا من الصمود، فليس معقولاً أن يكون عبطاً صريحا، ربما كانوا مؤمنين بالتفسير الطائفي أن منطقتهم آمنة من القصف الجوي، «ربنا يطمنهم»، يبدأ السائق من تلقاء نفسه في خرق حظر الكلام منطلقا في الحديث عن الناس الذين هربهم إلى سوريا منذ اندلاع الحرب، أقول له بغضب في سري: «شو هربهم هاي.. يا سيدي الملافظ سعد».


فجأة لم يعد ينظر إليَّ بنظرات ملتبسة، مقررا أن يخصني بنفس نظرات المودة التي يرسلها إلى علاء، وهو يحكي لنا بسعادة شديدة كيف طلب منه أحد المسافرين اللبنانيين الحاصلين على الجنسية الكندية بالأمس في أثناء سيرهم في الطريق الرئيسي الذي تم ضربه بعد ساعات أن يتوقف في مكان من الجبل لكي يشرب زجاجة «عَرَقي»، يقول إنه كان رجلا تجاوز السبعين ومعه زوجته، قال للسائق إنه حتى لو مات يحب أن يموت وهو مبسوط، وهل في الدنيا من هو أكثر انبساطا من السكران؟ أخرجنا صوت الطائرات الإسرائيلية من غمرة ضحكنا على طرائف السائق، أقول لزوجتي بكذب لا أبذل مجهودا في تزويقه: «ما تخافيش.. ده صوت ضغط الهواء مش صوت طيارات»، تهز رأسها وتنشغل بمزيد من الدعاء الذي لم يفارق شفتيها طيلة الوقت، أحاول أن أفهم سر التبلد الذي أصابني فجأة وأنا أصغي إلى أصوات الطائرات، الأصوات الآن ليست هادرة سريعة كما تعودت عليها في بيروت، هذه أصوات مختلفة، ثقيلة ثقلا كابسا على النفس، السائق يقول مفسرا: «هاي طيارات استطلاع.. أكيد بدون يضربوا الطريق بعد شوي.. ما هيك يا زلمة.. هادول ما يرموا قنابل هيك ببلاش.. لازم يدرسوا الهدف الأول وبعدها يضربوا». تشعر من فرط بروده وهو يتحدث أنه يعمل مرشدا على الأرض لطائرات الاستطلاع التي تحوم فوقنا بكل غتاتة، ندخل إلى قرية مسيحية على الطريق فنشهد سكانها وقد تجمعوا في ساحة القرية أمام الكنيسة في انتظار جنازة ما.

يا سلام على الفال، كلما صعدنا في الطريق الجبلي أكثر زاد الضغط على الأذن واختلط بصوت الطائرات فلا تدري هل الصوت حقيقي أم متوهم. السحب الآن أصبحت تحتنا واللافتات تحدد لنا أننا صرنا أعلى من سطح البحر بكذا ألف متر، ليس من الحكمة أن يخرج الإنسان رأسه ليتأكد هل هناك طائرات في الجو فعلا، كما اتفقنا أنا ونفسي منذ قليل: أنا لست عربيا مهانا يخرج فارّا وفأرا من بلد منتهك، أنا سائح إسكندنافي خالي البال يمتع عينيه بالطبيعة الخلابة، «الله إيه الحلاوة دي». أبدأ في دندنة غنوة فيروز «بحبك يا لبنان بحبك يا وطني»، لكن فيروز نفسها أبت إلا أن تخرجني من هذا «الفانتازي الإسكندنافي» الذي لم يستمر دقائق، ينبعث صوتها من الراديو كأنها الخنساء العائشة في الحزن الأبدي «وطني يا جبل الغيم الأزرق.. يا قمر الندى والزنبق.. يا بيوت اللي بيحبونا.. يا تراب اللي سبقونا.. يا زغيّر ووسع الدني.. يا وطني.. وطني يا دهب الزمان الضايع.. وطني من برق القصايد طالع.. أنا على بابك قصيدة.. كتبتها الريح العنيدة.. أنا حجرة.. أنا سوسني.. يا وطني.. وطني وحياتك وحياة المحبة.. شو بيني.. عمتكبر وتكبر بقلبي.. وأيامي اللي جايه جايه.. فيها الشمس مخباية.. إنت القوي.. إنت الغني وإنت الدني يا وطني». انخرطنا نحن الثلاثة في نوبة بكاء حادة، واندفعنا نناشد السائق أن يقفل الراديو مباشرة، ففعل وهو ينظر إلينا مستغربا بملامحه المتبلدة، مقررا مواصلة تعذيبنا بأن يشاركنا في أمله بأن يظل هذا الطريق سالما حتى نهاية اليوم لأن لديه توصيلة بعدنا إلى الأردن، يقول لنا إنه إذا تم ضرب هذا الطريق فلن يبقى سوى طرق الشمال التي تربط بين الهرمل وحمص، وهي طويلة جدا لكنها أكثر أمنا لتشعبها، دون اتفاق نسأله عن ما تبقى لكي نصل إلى الحدود، فيجيبنا بإجابته الأثيرة: «هلأ بتشوفوا».

كنا قد عبرنا زحلة وسهلها، أجابتنا اللافتة أننا قد اقتربنا للغاية من منفذ الحدود، بعد لحظات صدمتنا الجموع البشرية المتكدسة في كل مكان على بعد نصف ساعة من المنفذ، الكل هارب بما قدر عليه، العمال يعبرون الحدود برا بحقائب شبه خاوية، والسواح العرب يعبرونها بسيارات مليئة بالحقائب من كل ناحية، خبرة السائق جعلته يركن في مكان منعزل ويطلب منا التوجه إلى منفذ الحدود لكي ننجز أوراقنا في حين يواصل هو السير وسط جحيم «العجقة»، أمام منفذ الحدود اللبناني عرفنا حجمنا كمصريين، الخلايجة والأجانب يجلسون معززين مكرمين في سياراتهم وحافلاتهم بينما موظفو السفارة ينجزون أوراقهم، بينما نحن كشعب رائد ننعجن وسط الزحام والفوضى مع الرياديين من أمثالنا من أهالي سريلانكا والفلبين والصومال وإثيوبيا. ظننت أن توسلي بصديقنا المصري الأسترالي سيكون شفيعا لنا، لكن ظني كان خائبا فقد قرر كمواطن أسترالي صالح أن يقف في الدور لأن «ما يصحش نطلب استثناء في ظرف زي ده»، وكانت النتيجة أننا وقفنا أكثر من الساعة نناشد أحدا من ضباط الحدود أن ينظر إلينا مجرد نظرة ليختم جوازاتنا، اللهجة المصرية تعرفنا بالمزيد من المواطنين الذين يشاركوننا في بؤسنا الوطني والذين قيل فيما بعد على لسان مسئولي الخارجية المصرية في كل وسائل الإعلام إن كل أسباب الرعاية توفرت لهم من المسئولين. نتشارك في تفاصيل البؤس التي عشناها ولازلنا نعيشها، مبنى المنفذ الحدودي لا يتجاوز عدة أمتار، لو كان هناك مندوبون للسفارة لشاهدناهم مثلما شاهدنا مندوبي كل السفارات التي تحترم مواطنيها، بعد جهد يتضح أن سر تأخرنا هو أن صديقنا الأسترالي يرفض أن يدفع المعلوم، أربعين دولارا كالتي يدفعها الخلايجة والأجانب لكي يتاح لهم أن ينفدوا بجلدهم. تزداد الفوضى حدة وتعلو أصوات هنا وهناك، وتأتينا المفاجأة، الطائرات الإسرائيلية قصفت الآن الطريق الذي كنا نعبره منذ ساعة، سقط بعض المدنيين قتلى وتهدمت أغلب الجسور التي عبرنا عليها للتو، وسقط التفسير الطائفي، لبنان كله الآن مستباح ومستهدف، لم نعرف هل نشكر الله على لطفه بنا، أم ندعو على هؤلاء الموظفين الأوغاد الذين سرقوا منا فرحة الشعور بالنجاة.

مكالمات الأهل والأصدقاء تتوالى على هواتفنا المحمولة بعد أن أذيعت أخبار قصف الطريق مصحوبة بأخبار عن قصف مواقع داخل الحدود السورية، ارتفعت درجة التوتر إلى أقصى حالاتها، لم يعد هناك مبرر لتمسك علاء بالأخلاق الأسترالية، قرر أن يرفض الابتزاز لكن على الطريقة المصرية، فتح صوته على الرابع ولكن دون أن يفقد تهذيبه أبدا في وجوه ضباط منفذ الحدود مهددا بفضحهم، قلت لنفسي: «بس كده آدي دقني لو طلعنا»، لكن المفاجأة أثبتت أنهم يخافون ولا يختشون، أخذوا منه الجوازات وختموها على الفور وخرجنا من المنفذ، وهو يغلي غيظا قلت له مداعبا: « لو شافك حد من السفارة الأسترالية بتزعق بالقوة دي هيبلغ عنك بتهمة انتحال صفة أسترالي». السائق لم يبادر بدعابة بل بنصيحة: « هالحكي ما راح ينفعك عند السوريين.. أسترالي كندي.. بدك تدفع يعني بدك تدفع». ونحن نتحرك وسط الزحام خارجين باتجاه الحدود السورية نحاول من باب الدعابة المختلطة بالغل والأسى أن نمارس النق على موظفي الحدود، محاولين حساب الملايين التي سيحصلون عليها خلال يوم واحد من عشرات الآلاف من الهاربين.


رحلة أخرى من البهدلة والفوضى ولكن أشد وأكثر ألما نخوضها الآن في الجانب السوري، علاء هذه المرة لابد أن يدفع بالقانون رسوم دخوله سوريا كأجنبي، لكن كما هو الحال لدينا أيضا في أرض الكنانة «من العيب أن تدفع للقانون وتنسى أهل القانون»، لكن ربك والحق أهل القانون لدينا قانعون مقارنة بزملائهم في سوريا. دفع الرجل أمام أعيننا فوق المائة والأربعين دولارا، كل ذلك لكي لا يفتحوا معه تحقيقا طويلا عريضا عن سر مجيئه إلى سوريا والغرض من زيارته ومكان إقامته فيها، تخيل مشاعرك وأنت تجيب عن استمارة الدخول إلى سوريا وهي تسألك عن الغرض من زيارتك في حين تنبعث من التلفزيون مشاهد القصف الوحشي المريع للبنان، وتنبعث من بعيد أصوات الطائرات الإسرائيلية الهادرة بين الحين والآخر. في الليلة الماضية كان مسئولو الحدود في الجهتين ينشدون على كل الشاشات قصائد شعرية عن مجهوداتهم الجبارة في تذليل الصعاب للنازحين والهاربين والنافدين بجلودهم، نفعنا لحسن الحظ أن علاء «الأسترالي» معنا، فقد انشغلوا به عنا ولم يقترب منا أحد، جوازاتنا تفيد دخولنا إلى سوريا أكثر من مرة، مما يعني أننا نعلم أن المواطن العربي لايفترض به أن يدفع رسوما عند دخوله سوريا، يدفع فقط وهو يغادرها ربما لكي يشكر الله على نعمته بأنه ارتاح من إجراءات المطار العقيمة.

نفهم من مكالمات المتصلين بنا بين الحين والآخر أن سوريا نفت بشدة أخبار الهجوم على المنفذ الحدودي وعلى عمق أراضيها، كنا نتلقى كل ذلك ونحن نفاصل على ما سيدفعه علاء من رشوة لكي يسمحوا لسيارتنا بالعبور، بعد أن اتفقنا على المبلغ ودفعناه وبدأنا العبور من بوابة المنفذ أوقفنا جندي سوري، قبل أن نسأل بغضب: «في إيه تاني أيها الأشقاء؟»، فهمنا أن الدور في الدفع الآن على السائق نفسه، حاول أن يماطل ويتحجج، مد الجندي الذي يعرفه يده في جيبه، كان السائق قد احتاط على ما يبدو فوضع فيه عامدا ما يقرب من ثلاثة آلاف ليرة، أخرجها الجندي من جيبه وأخذها، قال له السائق مشيرا إلى الضابط الواقف على يسار العربية: «وَلَك قدام الضابط يا زلمة»، رد الجندي ردا بليغا: «قُدّام الضابط وقُدّام اللي بده يكون يكون». لحظة أن نطق بجملته هذه سقط كل شيء، سقط الوطن العربي كله أمام أعيننا، لم يعد هناك ألغاز ولا أمور تستحق التفسير، لم يعد هناك طعم لحمد الله عالسلامة، فأي سلامة هذه التي ترتجى في أوطان هذا واقعها، نقول لأنفسنا: الحمد لله حالنا أحسن من غيرنا، على الأقل نفدنا من المجزرة التي راح ضحيتها الذين تلونا مباشرة كما عرفنا فيما بعد عند متابعتنا للأخبار ومشاهدتنا لصور مناطق عبرنا منها سالمين، كان جليا من الأخبار المنبعثة من الراديو أننا خرجنا فعلا في التوقيت المناسب، علاء يشكرنا على دعاء أمهاتنا الذي شمله أيضا. كنا قد تركنا لبنان يحترق وراءنا ودخلنا في تمام السابعة مساء إلى سوريا التي تفتح ذراعيها للإخوة العرب شريطة أن يفتح الإخوة العرب جيوبهم أولا.

أمامنا فرصة للحاق بالطائرة السورية المتجهة إلى القاهرة، السيارة تنهب الطريق بعد كل ما تعرض له ركابها من نهب، زوجتي خجلة من إظهار مشاعر فرحها، أقول لها: «عايز أفرح بس في مثل واقف في زوري بيقول: ما تزغردوش إلا أما تتنصفوا»، أريد أن أعود إلى مصر، لكن قلبي حزين على لبنان، هنا في مواقف كهذه تظهر كل التناقضات جلية، هنا تظهر حقيقة النفس البشرية. أسترجع كل التفاصيل التي شهدتها خلال الأيام الثلاثة الماضية، لأحاول أن أفهم لماذا لست فرحا بخروجي سالما من بيروت كما يفترض. إنه الوهن. دعني أحدثك عن الوهن كما عرفته جيدا. فتحت سماء تعربد فيها الطائرات الحربية الإسرائيلية، وفوق أرض تهوي عليها القنابل ذات الأطنان يمكنك أن تتعرف على الوهن.

الوَهَن، حب الدنيا وكراهية الموت كما يعرفه سيد الخلق، لن تقابله وأنت جالس تحت التكييف تحاول الاتصال ببرنامج (منبر الجزيرة) لتفش غلك بكلمتين ضد إسرائيل والأنظمة العربية قبل أن تهوي إلى سريرك، ستقابله وأنت معرض للموت في وطن مستباح. هناك وتحت أصوات هدير الطائرات الحربية تتهاوى كل التنظيرات، وفي انتظار الموت المحقق يتأكد لك إذا كنت تؤمن بالله حقا وتحب لقاءه صدقا، أم إنك ستموت على الدنيا. هذا ما علمته لي ليالي انتظار الموت في بيروت. لن أتفوه من الآن بكلمة لست قدها. الآن أصبحت كلما شاهدت على شاشة التلفاز مناضلا فضائيا يدعو حزب الله لأن يدك عرش إسرائيل ويسوي بقوتها النووية الأرض، سألت نفسي: هل سيحتفظ بنبرة صوته المجلجلة هذه إذا كُتِب عليه أن يخرج أسرته من تحت الأنقاض؟ إذا كان سيثبت عندها فله كل الاحترام والتقدير، أما إذا كان سيجزع فليس عليه أن يناضل تحت ظلال التكييف بدماء من هم تحت القصف. ستذكرني سيادتك بأن قتلانا في الجنة وأن الشهادة هي أرفع منزلة يتمناها الإنسان منا، جزاك الله عني خيرا، لكن اسمح لي أن أسألك: لماذا فقط تعجبنا الشهادة في سبيل الله عندما تكون بعيدة عن ديارنا؟ لماذا نحب الموت في سبيل الله إذا كان أناس آخرون غيرنا هم الذين سيموتون؟ يبدو لك كلامي محبطاً بفتح الباء وكسرها؟ أعلم ذلك. فالمرحلة الآن يروج فيها كلام من نوع آخر، فالحرب قايدة وقصف الحناجر دوار. لذلك الأسهل أن تتهمني بالانهزامية والتخاذل والسلبية، وهو أمر حسن إذا كان سيريحك، لكن هلا أجبتني أولا: ماذا فعلت من أجل لبنان؟ لا تجبني بل أجب نفسك وحاسبها، هل فعلت شيئا من أجل لبنان وفلسطين غير الدعاء ومصمصة الشفاه والنضال عن بعد؟ بلاش .. هل فعلت شيئا من أجل بلادك أولا؟ هل رددت الظلم عن نفسك أو عن غيرك؟ هل أنكرت منكرا تعرفه وتعيشه؟ هل تعيش في بلادك حرا كريما عزيزا؟ إذا كانت الإجابة عن كل تلك الأسئلة لا، فلا تحدثني إذن عن العزة والكرامة والنصر المنشود، بل حدثني عن الوَهَن الذي نحن غارقون فيه حتى أذقاننا.

في مطار القاهرة قال لي رجل كبير في السن يعمل في المطار وهو يهنئني بالسلامة: «مش عارفين نعمل إيه في إسرائيل دي.. عمالين ندعي عليها في الجوامع ولا بيحوق فيها زي مانكون بندعي لها». ضحكت وأنا أستغفر الله العظيم معه، لكنني تذكرت أنه عَبَّر بما قاله عن رغبة الملايين منا في أن يستيقظوا من النوم ليجدوا حسن نصر الله وقد دمر تل أبيب وأراحنا من إسرائيل وجيوشها. لا بأس من الحلم طالما لن يدفع ثمنه سوى اللبنانيين والفلسطينيين، لا ضير في ذلك فهم معتادون على الحرب والدم والقصف والدمار، هم في رباط إلى يوم القيامة، أما نحن فقد حررنا أرضنا ثم بالسلام مددنا أيدينا فردت الدنيا علينا بالسلام يا سلام، لا بأس إذن أن نلعن مواقف حكامنا المخزية ونبكي على بيروت ما دام «المعتّرين» و«المتنيلين على أعينهم» من الفقراء الذين لا يملكون وطنا آخر ولا جنسية أخرى هم وحدهم الذين سيموتون.

لا أجد مخرجاً لإيقاف الأفكار التي تتداعى إلى نفسي الآن وعليها، سوى أن أحكي لك عن ابنتي ذات الأعوام الثلاثة وهي تقول لي محاولة شرح ما تراه على شاشة التلفاز من وجهة نظرها: «بص يا بابا.. إسلائيل قتلت العيال.. قتلت البيت.. قتلت الشارع». لم تكذبي يا ابنتي والله. لكنك عندما تكبرين ستعرفين أن إسرائيل لم تفعل كل ذلك إلا لأننا قتلنا أنفسنا أولا، وانتحرنا انتحارا جماعيا بجرعة زائدة من الوهن. الوهن الذي دفع ثمنه لبنان الذي عندما نجونا منه هاربين، كان هو يقاوم الموت على أنغام تلك الأغنية اللعينة التي صارت جزءا من قدره «راجع راجع يتعمّر لبنان».

...

(كتبت هذه الشهادة ونشرت في يوليو 2006 ونشرت في كتاب (التغريبة البلالية) الذي تصدر طبعة جديدة منه قريباً بإذن الله)
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.