الحل في الحل!

الحل في الحل!

01 يوليو 2019
+ الخط -
حلّ جماعة الإخوان المسلمين، اقتراح لوذعي يتردد بين جنبات مواقع التواصل الاجتماعي، وبين سطور يقرؤها مشاهير إعلام دفن الشرعية؛ يخبو قليلا ثم يعود ليلمع متزامنا مع حالات الاعتقال، والاختفاء القسري، والإعدامات، ومع رسائل مسربة تنقل عذابات المقهورين في غياهب السجون؛ ومؤخرا، عاد هذا الطرح للظهور مع ما نقله موقع "ميدل إيست آي" البريطاني عن مصادر قولها إن الرئيس محمد مرسي وزعماء الإخوان المسلمين المسجونين في مصر اُعطُوا مهلة من قبل مسؤولين كبار في نظام السيسي لحل الجماعة أو مواجهة العواقب، وحين رفضوا كان الجزاء هو قتل مرسي.

هل حقا هذا هو الحل؟!.. أن يعلن من بقي من مسؤولي الجماعة أنه قد انفرط عقدها وأنها قد أسدلت الستار على جهاد دام تسعين عاما؟

يروج لهذه الفكرة فئتان؛ الأولى، تمثل جماعة 25-30، وأذناب الانقلاب الموثوق بهم بين صفوف مؤيدي الشرعية، والذين يقدمون على الشاشات باسم المناضل كذا، والزعيم كذا، وهؤلاء لم تُمحَ سجلات "يوتيوب" التي تحوي اعترافاتهم صوتا وصورة بتأييدهم الانقلاب على شرعية اختيار الناخبين لرئيس ومجلس شعب وشورى ودستور، هؤلاء امتلكوا قنوات لا يملك أحد أن يسألهم عن مصدر تمويلها، تبارك الشرعية ظاهرا بينما تغتالها باطنا، ينبهر العامة بأداء مذيعيها المتحمسين على الدوام، فهم يلهبون حماسهم ويجرونهم من دون وعي منهم إلى دائرة اللا شرعية، يستضيفون شخصيات داعمة للشرعية وغير داعمة يجمعها جلد قيادات الإخوان في الخارج ورميها بالفشل، والمطالبة بتنحيهم، وتعلية أبراج أحلام الاصطفاف لدى المشاهدين من دون توقيع عقد أرض مشتركة، أو دراسة جدوى، أو حتى رسم مبدئي.


أما الفئة الثانية، فيمثلها أفراد من جماعة الإخوان المسلمين، ومؤيدوهم من العامة لا انتماء سياسياً لهم؛ وهؤلاء مقتنعون بمنهج أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، لا يؤيدون حل الجماعة، ولكن حسن نواياهم يدعم الفئة الأولى بادعائهم عدم شرعية وضعف القائمين عليها، من دون أن يكونوا كيانا جديدا أو يتخذوا خطوات جادة طوال ست سنوات نحو أهداف قالوا إن القيادات أخفقت في تحقيقها.

كلام كثير يثار، ولا يدرك المتحدثون عظم لحظة فارقة تشهد صراعا محموما بين المنقلب وجماعة الإخوان. سنون طويلة من الصمت، وكأنها مشهد في فيلم عصابات، حين يطوق كثير الأشرار قليل الأخيار، وقد رفع كلا الفريقين سلاحه وصوّبه نحو رأس الآخر. يعرف الأبطال أنهم قد أحيط بهم، ويأمرهم المجرمون بإلقاء سلاحهم في مقابل الإبقاء على حيواتهم، وما أن يفعلوا حتى يقتلوهم. هي نفس اللقطة التي يضع فيها السفاح السكين على رقبة ابن البطل، ويأمره أن يستسلم، وحين يستجيب، يذبحه وابنه.

وكمثال توضيحي، ساقت الأقدار حادثا في وقته تماما، فقد ذهبت قوات أمن الانقلاب منذ عدة أيام لتعتقل الدكتور أسامة العقباوي عضو الهيئة العليا لحزب الاستقلال، وحين لم يجدوه اعتقلوا ابنته مودة ذات الـ18 عاما والطالبة بالفرقة الأولى كلية الإعلام؛ علم الأب فأرسل تلغرافا للنائب العام باعتقال ابنته، ثم سلم نفسه للشرطة، فلا عاد هو ولا عادت مودة، هل استوعبتم المكيدة.

إنها القاعدة القديمة الحديثة، يقتلك عدوك إذا تمكن منك، إذا ما سلمت له، وإذا ما حاربته حتى الرمق الأخير، فأيهما أشرف؟ أن تموت في ساحة المعركة، أم أن تموت ذليلا تحت قدميه؟ إن كل ما يحتاجه النظام هو اعتراف الجماعة ومؤيديها به، ورفعهم الراية البيضاء، ليفتك بهم؛ سبقتهم الجماعة العلمانية إلى الرضوخ، فهل نجت؟

إن الحقيقة التي أثبتها تقرير"ميدل إيست آي"، والتي لطالما ذكرتها في مقالات سابقة، أن الثورة المصرية لم تفشل، بل نجحت وأنجزت، وأن الإخوان المسلمين قادوها باحترافية سياسية أرهقت العسكر، وأن صبر الإخوان وجلدهم في السجون كان حربا باردة قاسية من نوع فريد، شوهها جبناء الثورة لإخفاء تخاذل أزكم أنف كل شريف، جبنهم الذي أضفوا عليه قداسة التعاطف مع معتقلين ألقوهم بأيديهم في غياهب المعتقلات، وعادوا عشاء الانقلاب إلى أهل الشرعية يصطفون، عاتبين عليهم أنهم ما كانوا ليقنعوا بدموعهم ولو كانوا صادقين.

إن كان الأمر يتعلق بالتعاطف مع أحوال المعتقلين، فذلك لا يحتاج حل الجماعة، فقط على من يريد الخروج أن يستسلم ويتبرأ من الانتماء لها، ولكن هذا ليس مربط الفرس، فهذا النظام يستخدم الأسرى دروعاً بشرية و"كروت" ضغط على متخذي القرار في الجماعة ليستسلموا.

وإذا افترضنا جدلا أن فرض الحل قابل للتجربة؛ فما العائد من وراء حلها؟ هل سيطلق النظام سراح المعتقلين؟ إذن، خلف أي ستار سيخفي جرائمه التي يغلفها بأكذوبة الإرهاب إن هو أفرج عنهم؟ وهل ستختفي تهمة الانتماء إلى جماعة محظورة أم أنها ستتحول إلى الانتماء إلى جماعة حلوها؟ وما بال النظام يعتقل يساريين وليبراليين وغير منتمين، إن كان كيان الإخوان هو السبب في الاعتقال؟! وأخيرا، هل هناك بديل مترابط ذو شعبية جاهز لتحمل عبء القيادة بعد إعلان الجماعة حلها أم أن هذا الاقتراح يخرج من حيث بصقت فكرة حل النظام الديمقراطي الوليد في مصر برئاسة محمد مرسي، فتتفتت الجماعة كما تحطمت الثورة، وتطارد بقاياها في كل مكان حتى لا تقوم لها قائمة، وبهذا يهدم أصحاب الحق آخر حصونهم ويقفزون إلى المجهول؟

إن من يتجاهل ارتباط جماعة الإخوان المسلمين في مصر بحركة حماس في فلسطين، ومن يتغافل عن توقيت غلق ملف الإخوان المسلمين في بلدها الأم مصر، ومن يتحايل على تشتيت انتباه الناس عن علاقة إثارة هدم كيان تلك الجماعة في نفس توقيت النهوض بـ"صفقة القرن"، لهو ضلع آثم يعمل لصالح إنجاح هذا المخطط الخبيث.

جميعنا يعلم ألا جماعة منظمة ذات خلفية إسلامية بهذا الاتساع وهذا الفهم السياسي التاريخي سوى جماعة الإخوان، وأنه لولا التحامها السياسي بعد سقوط الخلافة الذي أنكرته عليها فرق سلفية لانقضى الحديث عن عظيم قضايا الأمة في ظل تخاذل وضعف وعدم تنظيم باقي الجماعات التي نصبت نفسها مفتيا يحل ويحرم، من دون رؤية فاعلة تربط الدين بالدنيا.

فرجاء، قبل أن تروجوا لفكرة، أبحروا إلى أقاصيها، وابحثوا عن شواطئ وطنية آمنة، واهتدوا بنجوم التاريخ، واتبعوا إبرة بوصلة تشير نحو الشرق.
7048540C-B765-4399-A999-CB7869F215E2
رانيا مصطفى
باحثة مهتمة بالتاريخ والسياسة والأدب والعلوم الإنسانية. تقول: كل فكرة فى مقال ماهى إلا رسالة فى زجاجة ملقاة فى بحر تتقاذفها أمواج الأيام حتى تصل إلى من يهمه الأمر