الحق على والدته التي خلفته

الحق على والدته التي خلفته

01 يوليو 2019
+ الخط -
قال الأستاذ كمال مخاطباً "أبو الجود" إن حكاية السجين "أبو راس الدمخ" والمنام اللي رأى فيه حافظ الأسد وهو يأكل فول جميلة للغاية. ولكننا نادراً ما نسمع منه حكاية من هذا الطراز، مع العلم بأن دخوله السجن قبل ثلاثين سنة يجب أن يكون قد أكسبه خبرة حياتية، ومؤكدٌ أن المساجين في أوقات فراغهم الطويلة حكوا أمامه قصصاً من حياتهم العجيبة، فصار عنده ذخيرة حكايات.. يعني مثل القَصَّاص الشعبي المرحوم "حكمت محسن" الذي كان يكتب تمثيليات إذاعية مقتبسة من الحكايات التي يسمعها من الناس الذين يلتقيهم في دكانه بدمشق، حيث كان يعمل بمهنة تنجيد اللحف.

تدخل أبو جهاد وقال: حتى لو سمعْ أبو الجود قصة من فلان وعلان، شو راح يستفيد؟ يعني بده يصير كاتب متلك ومتل أبو مرداس؟ هوّي كله على بعضُه حكاية.. وأنا مستعد أحلف يمين على إنُّه بكل السجن ما بتلاقي قصة متل قصته.


كان أبو الجود ينظر إلى أبو جهاد بطرف عينه، وعندما انتهى من كلامه قال لنا: شايفين هادا صاحبنا "أبو جهاد"؟ من دون يمين أنا كل ما تأملت فيه بيتهيأ لي إنو نصْ أجْدَبْ! صدقوني لو كنت مخرجْ تلفزيوني وكان أبو جهادْ ممثلْ ما بعطيه غير دور الأجدب. والله إنه بيأدي الدور أحسن من كل بيت "كوسا".. ومع هيك في بعض الأوقات بيحكي فكرة، وبتطلع معُه صحيحة. وأكيد بتجي الفكرة صحيحة من دون ما يقصد.. يعني على طريقة (الأرنبة أصابت العصاية).. ولما قال إنه قصتي أنا ما في متلها بكل السجن كان كلامُه صحيح مية بالمية. لاكن الحق على مين برأيكم؟

سأله العم أبو محمد: على مين؟
قال: الحق على جدي عبد الكريم والد والدتي.. الله يرحمه. ترى أنا لحد هاللحظة زعلان منه، وماني مستعد أسامحه على الفصل الناقص اللي عملُه فيني.
قال أبو محمد: يا أبو الجود اسمح لي قلك إنك عم تحكي كلام شَنْدي بَنْدي.
قال أبو جهاد: بتقصد إنه كذاب أشر؟
قال أبو محمد: أنا بحترم أبو الجود، ومستحيل أقول عنه كذاب أشر. لكن اللي قاله ما بيدخل بالعقل. يا أبو الجود؛ جدك عبد الكريم مات لما كان عمرك سنتين أو تلاتة، فكيف بتقول إنه عمل فيك فصلْ ناقصْ؟

قال كمال ممازحاً: يمكن أبو الجود زعلان من جده عبد الكريم لأنه كان فقير وما خَلَّفْ لبنته اللي هيي والدة أبو الجود شوية أراضي وعقارات.. لو كان عَطَاها أراضي وبيوت ودكاكين كانت هيي بدورها بتعطيهن لأبو الجود، وبيصير زنكين بيلعب بالمصاري لعب، وطول النهار بيقول: الله يرحمك يا جدي عبد الكريم.

قال أبو الجود: لو كنت عم فكر متلما عم تقول يا أستاذ كمال كنتْ بزعلْ من أبي، ومن جدي عبد الجواد والد أبي.. أنا بصراحة ماني زعلان من الفقر، الفقر في عيلتنا شي وراثي، إذا بتوصل لسابع جد من جدودي بتلاقيه قاعد عم يرجف من البرد، لأنه ما معه تَمَنْ جاكيت شتوي، وعم يعوي من الفقر وما معه تمن رغيفين خبز..

قال أبو إبراهيم: والله إنك حيرتنا يا أبو الجود. طيب تفضل احكي لنا ليش زعلان من جدك عبد الكريم؟
قال أبو الجود: أنا بدي إسألكم سؤال، وبدي إياكم تجاوبوني بصراحة. البنات الموجودات في المجتمع كلياتهن بيتجوزوا وبيصير عندهن بيوت ورجال، وبيخلفوا ولاد؟ وَلَّا في بنات ما بيجيهن النصيب وبيبقوا قاعدات في بيوت أهاليهُنْ؟
قال أبو محمد: في كتير بنات ما بيتجوزوا.
قال أبو الجود: طيب لكان ليش جدي عبد الكريم جوزها لأمي؟ ليش ما خلاها تعنس وتقعد في البيت؟ أصلاً هوي ونانتي فطوم كبروا وعجزوا وكانوا بحاجة لحدا يخدمهم. لو بقيت أمي في البيت كانت خدمت أمها وأبوها وبتكسب ثوابهم. صح ولا لأ؟

استغرب الحاضرون في السهرة هذا "التكويع" الذي يقوم به أبو الجود.. وقال أبو محمد: بصراحة، ما عرفنا أيش العبرة من كل هالحديث.

قال أبو الجود: لو أمي ما تجوزت، يا عمي أبو محمد، ما كنت أنا جيت عالدنيا، ولا كنت تعرفتْ على مرتي أم الجود اللي طول النهار بتبهدلني.. ولا كنت خلفت هالولاد اللي ولا واحد منهم بينفع للصيف أو للضيف أو لغدر الزمان!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...