أزهى عصور التحرش!

أزهى عصور التحرش!

02 يوليو 2019
+ الخط -
مشكلة الذين يترحمون على أيام الزمن الجميل ويلعنون سنسفيل أيامنا القبيحة أنهم لم يذهبوا أبدا إلى دار الكتب ولم يترددوا بانتظام على باعة الصحف القديمة في سور الأزبكية ولم يسمعوا أن حكيم الدهر أبا الطيب المتنبي خلص الحكاية من زمان عندما قال: صَحِبَ الناسُ قَبلَنا ذا الزمانا.. وعَنَاهم مِن أمرِهِ ماعَنانا.

كل يوم والتاني تجد شخصا يطلع علينا لينتع مرثية لأيام زمان الحلوة ويلعن سنسفيل هذا الزمان الرديء الذي يملؤه العنف والتحرش والإنحطاط الأخلاقي والأنانية والأنا مالية والسلبية، ومن عجب أن من يقرأون له أو يستمعون إليه أو يشاهدونه يشاركونه في مايقوله، دون أن يتوقف أحدهم ليسأل نفسه "هو أنا سمعت الكلام ده فين قبل كده؟"، أو بمعنى أصح " هو أنا من إمتى منذ ولدت توقفت عن سماع هذا الكلام؟".


لن أزايد على أحد، فقط سأحكي ما أعرفه. كان لدي تسعة أعوام وكنت مرسلا في الصباح الباكر لمهمة جلب عيش فينو لزوم خروجة البحر، الفرن كان قريبا من بيتنا في شارع عمر بن الخطاب بالإسكندرية وهو المزدحم بالناس ليلا ونهارا، كنت أقف في طابور الفرن عندما دوت صرخات أنثى تقاوم أربعة رجال أشداء أخذوا على مرأى ومسمع من الناس يشدونها إلى داخل "مشروع" ـ الإسم الذي يطلقه الاسكندرانية على الميكروباص ـ لازلت حتى اللحظة أتذكر نظراتها الهلعة وصيحات الإستنجاد التي تحولت إلى شتائم للمتفرجين عليها، ولازلت أذكر نظرات الخزي في عيون الجميع وهم مابين محوقل ومستعيذ بالله من شر الفضيحة ومابين مذكر أنها أكيد هربانة من أهلها وآديهم لاقوها، كل هذا أذكره مثلما أذكر مئات التحقيقات الصحفية والأحاديث التلفزيونية التي تنعي منذ أن وعيت على الدنيا انتشار مظاهر الأنامالية والسلبية والعدمية وتقطيع الأزواج في أكياس النايلون وتغير شكل الجريمة وزيادة العنف الغريب على مجتمعنا وماإلى ذلك من موضوعات معادة ربّى الصحفيون والإعلاميون جيلا بعد جيل أبناءهم من خير اللكّ فيها.

أرجوك راجع صحف السبعينات والثمانينات وصحح لي كلامي إن كنت مخطئا، أما إذا لم يكن لديك وقت فدعني أرجع بك إلى ماهو أبعد من ذلك بكثير، إلى حيث الزمن الجميل الذي يحن إليه الواهمون، مارأيك مثلا فيما ينقله الباحث المهضوم الحق عظيم الإنجاز محمد سيد كيلاني (صاحب كتابي ترام القاهرة وفي ربوع الأزبكية)عن صحيفة المقطم في عددها الصادر بتاريخ 19 اغسطس 1898 وهي تستنكر" مايفعله بعض الذين شاركوا الغواني في لباسهن، والمخنثين في أخلاقهم، من ارتيادهم الطرقات والمنتديات، وهم كلما رأوا سيدة عارضوها في طريقها وأسمعوها من بذاءة أقوالهم مايحمر له وجه كل حر خجلا، وأنكى من ذلك واشد وقاحة شراؤهم الصور القبيحة وإبرازها أمام كل مخدرة يلتقون بها، فتأخذ تلك المسكينة الرعدة من هذه السفالة، ولايزالون في أثرها حتى تلج حانوتا، أو تركب مركبة تخلصها من شرهم، فيغرقوا إذ ذاك في الضحك، هؤلاء غير رجال وخط الشيب رأسهم، تجدهم عصارى كل يوم في محطة الكهرباء العمومية، يركبون القطار ذهابا وجيئة، وليس لهم من أرب سوى التهكم وإبداء سفالتهم لكل امرأة يجدونها في القطار وحدها، ولارجل معها"، وكيف عمت الشكوى بعدها أنحاء البلاد من الإنفلات الجنسي الذي أصاب الناس، والذي "بلغ مبلغا لم يشاهد في البلاد الأجنبية فقد عثر في يوم واحد على ثلاثة عشر لقيطا في جوانب القاهرة"، هذا وحياة غلاوتك غيض من فيض، فعن أي زمن جميل يتحدث السادة اللاطمون على الماضي، وهل يدركون أن عزفهم على أنغام الماضي الجميل الذي ولى، لن ينتج عنه أبدا أي إصلاح، ولاتدفع إلا إلى مزيد من اليأس، وهل يعون أن قدر الكاتب هو دفع الناس إلى الحنين إلى المستقبل وليس إلى البكاء على الماضي.

لو أنصف هؤلاء العائشون في وهم الزمن الجميل لقالوا أن كل الأزمنة حافلة بالقبح، هكذا خلقها الله وهكذا كتب علينا أن نكابدها، وربما كان زمننا أجمل لأننا بتنا فيه نواجه أخطائنا ولاندفن رؤوسنا في الرمال، ولو أخذنا التحرش مثلا لأدركنا أن فتياتنا اليوم في ظني صرن أجدع من فتيات زمان، بات بينهن من يتحفزن ضد كل من تسول له نفسه أن يتحرش بهن، بل وحتى ضد من يتخيلن أنه يتحرش بهن وهو من ذلك برئ، وفي ذلك سمعت قصة من صديق لي يعمل في معرض للسيارات عن فتاة رقيقة استلمت منه سيارتها الجديدة فقال لها صديقي مشيرا إلى عماله "ياريت تراضي الرجالة"، فتحولت إلى وحش كاسر، مع أنه لم يكن يقصد ذلك النوع من المراضاة.

(نشرت هذه السطور في عام 2008 وهي جزء من كتابي (فتح بطن التاريخ) الذي يعاد طبعه قريباً عن دار المشرق وأهديها إلى عدد من الكتّاب الذين قرأت لهم في الأيام الماضية تعليقات تعزو كل أزمات التحرش إلى هذا الزمان القبيح وأهله، وتبرئ منه الأزمنة الجميلة الماضية وأهلها).
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.