الجماعة المأزومة

الجماعة المأزومة

09 يونيو 2019
+ الخط -
بدأت أزمة الإخوان المسلمين في مصر مع ثورة 25 يناير، وليس مع انقلاب يوليو، كما يعتقد كثيرون، ذلك أن قيادات الجماعة وجدت نفسها في مواجهة حدث ضخم لم تكن مستعدة للتعامل معه، واضطرت لمجاراته تحت ضغط أفرادها، فلم تحسن التعامل معه لعدم اتساقه مع نهجها الفكري والسياسي والتربوي.

اعتبرت الجماعة تنحي مبارك نهاية سعيدة لثورة سريعة، وتركت للمجلس العسكري قيادة المرحلة الانتقالية، وراحت ترتب أوراقها للاستحقاقات الانتخابية التي برعت فيها على مدى عقود، بدلاً من أن تدفع من الخلف بقوى المجتمع لإكمال الثورة وتفكيك النظام عبر تغيير شامل للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فكانت النتيجة الانقلاب على الجماعة والثورة على حد سواء.

ذهبت الجماعة إلى سلطة بلا أدوات، وبحسابات عزلتها عن بقية القوى صاحبة المصلحة في التغيير، وحاولت تطويع أجهزة الدولة التي سرعان ما انقلبت عليها، فيما أسهمت السلطة الوهمية التي تولتها في هذا الظرف الثوري في عزلها عن الجماهير وحرقها سريعا في الشارع، ربما لأنها لم تمد يدها بشجاعة لتعيد للفقراء حقوقهم بعد عقود من الحرمان ولم تجيشهم للدخول في حرب معلنة وبجسارة مع السلطة المتزوجة برأس المال.


ويفاقم الأزمة رفض الإخوان المسلمين حتى الآن الاعتراف بالفشل في التعامل السياسي مع مفاجأة الثورة، والإقرار بأن الكثير من القرارات التي اتخذتها ومن بينها محاولة تصدر المشهد كانت ردات فعل للأحداث، ولم تكن نتيجة إدراك واعٍ لأبعادها، أضف إلى ذلك الفشل في إجراء التغييرات الهيكلية اللازمة لاستيعاب هذا الحدث الضخم والتعامل الجيد مع تداعياته.

ومع تجاوزنا لأحاديث من قبيل أن "الضرب في الميت حرام"، وأن الساحة خالية لمن يريد أن يفعل شيئا بدلا من التفرغ لانتقاد الإخوان، وأن هؤلاء الذين نزلوا للشارع في 30 يونيو هم السبب في إجهاض التجربة الديمقراطية، وأن الانقلاب كان سيحدث لا محالة سواء كان على مرسي أو غيره، وبغض النظر عن اتفاقنا مع هذه الدفوع من عدمه، فالحقيقة أن إدانة الإخوان وتحميلهم المسؤولية هو آخر ما نصبو إليه.

فما يهمنا في المقام الأول هو فهم أسباب هذا الفشل وأسباب عدم القدرة على القراءة الجيدة لموازين القوى داخلياً وخارجياً وسوء الأداء الذي أفقدها كثيراً من شعبيتها واحترام المجتمع وتعاطفه معها، وليس المعيار هنا قدرتها على منع الانقلاب من عدمه فربما فاق ذلك قدرتها بالفعل.

ومع التسليم بأن الجماعة تمثل شريحة من المجتمع، وأنها ظلت لعقود الخزان الرئيس للمزاج المعارض في مصر، يمكننا القول إن صلاح أحوال المعارضة المصرية مرتبط إلى حد كبير بإصلاح هذه الجماعة مغلقة التنظيم، أو تحرير هذا الخزان المعارض من أوهام المعارضة الزائفة أو زائغة الهدف والعاجزة والفاشلة وتحريضه على كسر شرنقة التنظيم.

فمستقبل الجماعة بات مرتبطاً بإحداث تغييرات هيكلية عليها وتقديم الفكرة على التنظيم، مع الوضع في الاعتبار أن الوقت قد حان لهذا التغيير، وكل تأجيل له هو ترحيل لا يخدم سوى السلطة في مصر وقيادات شائخة تتعبد إلى الله بالحفاظ على التنظيم وكأنه فرض من فروض الإسلام وليس مجرد وسيلة ابتدعها حسن البنا، وربما لو عاد للحياة لابتدع وسيلة أخرى مغايرة تماما.

إن الجماعة التي بدأت دعوية مع مؤسسها ثم انغمست في السياسة شيئاً فشيئاً أغفلت في تطورها التاريخي أهمية التخصص الذي أصبح يميز العصر، وظل عضو الإخوان داعية وسياسياً وأشياء أخرى، فكانت النتيجة أن السياسة عرقلت الدعوة فيما قيدت الدعوة خيال السياسي وحدت من حركته، وبات لدينا إشكالية حقيقية تتطلب جهدا كبيرا لتحرير العلاقة بين الدين الثابت بنصوصه المقدسة والمواقف السياسية المتحولة بمواءماتها الطارئة.

تصدت الجماعة لمحاولة مبكرة من جانب بعض شبابها في التسعينيات لعمل حزب سياسي وقامت بشيطنتهم فكانت النتيجة خلو الجماعة -إلا ما ندر- من ساسة لديهم القدرة على توجيه قرارها في الاتجاه الداعم لقيمها السياسية برؤية استراتيجية، وخرجت قراراتها ردات فعل ظرفية أسهمت بفداحة في سلبها مصدر قوتها، وهو التأييد الشعبي حيث سهل التلاعب بالمجموعة التي سيطرت على مكتب الإرشاد بسبب قلة زادها في مجال السياسة.

هذا على مستوى هيكل الجماعة أما نهجها وخطابها فقد انطوى على إشكاليات كبيرة أيضا، فرغم أن بعضهم ذهب في توصيف الحركة الإسلامية وفي مقدمتها جماعة الاخوان باعتبارها حركة احتجاج اجتماعي لأبناء الطبقتين المتوسطة والفقيرة، لم تستطع الجماعة تطوير خطابها السياسي ليتحدث باسم هذه الطبقات ويمثل المدافع عن حقوقها في مواجهة الدولة ونخبتها الحاكمة.

بل على العكس اكتفت الجماعة بمساعدة الدولة -من دون قصد طبعا- في حل مشاكل هذه الفئات اجتماعيا، واكتفت في المقابل بالحصول على أصواتها في الانتخابات مع حرص على التمايز وعدم الذوبان في هذه الطبقات فساعدتها على مواجهة شظف الحياة وسد بطونها الجائعة، لكنها تركت عقولهم نهبا للدولة ونخبتها الحاكمة.

وقد رفع الإخوان لعقود شعار "الإسلام هو الحل" من دون جهد حقيقي لبلورة نظرية عصرية واضحة وبسيطة لشكل الدولة ووظيفتها وانحيازاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكيفية إدارتها للصراعات الداخلية، كصراع الطبقات والأجيال والأفكار وغيرها من الصراعات، هذا فضلا عن العجز عن ترسيم حدود حركة الدولة داخل إطار النظام العالمي.

وإلى جانب المد السلفي الذي طغى على الجماعة في العقود الأخيرة افتقر أعضاؤها إلى الحد الأدنى من التثقيف السياسي، فلن تجد بين صفوفها على سبيل المثال من قرأ السياسة لأرسطو ورأس المال لكارل ماركس وروح الثورات لجوستاف لوبون ومقدمة ابن خلدون وشخصية مصر لجمال حمدان وشروط النهضة لمالك بن نبي وغيرها من الكتب في العلوم الإنسانية والاجتماعية، ما جعل قمة الهرم تبدو على النحو الذي فاجأ الجميع من حيث قلة الوعي السياسي.

كل هذه النواقص وغيرها أسهمت في عدم إدراك الجماعة لحقيقة وضعها الراهن وحاجتها الماسة إلى التغيير الشامل في أهدافها واستراتيجياتها وهياكلها وخطابها، وحتمية التخلص من الإرث التاريخي الذي تعرض لكثير من التشويه بالحق والباطل، حتى تستطيع العودة السريعة إذا أرادت الإسهام الحقيقي في إنقاذ مصر من وضعها الراهن.

ولم يظهر حتى الآن بين صفوف الإخوان من يبدو أنه استوعب هذه المشاكل الهيكلية والفكرية والسياسية، ومن لديه القدرة على إقناع الصف الإخواني بحجم هذه المشاكل وخطورتها بما يهدد باستمرار حالة العجز واللافعل، بل وتكرار تجارب الفشل اذا أتيحت فرص أخرى في المستقبل للجماعة كما أتيح لها في 2011.

فمن يستطيع إقناع الإخوان بأنهم خسروا نتيجة سوء الأداء وليس فقط بسبب التآمر والتشويه الإعلامي ومشاكل المجتمع المعروفة، ومن يقنعهم بأن استعادة الثقة تتطلب إجراءات عملية تثبت للجماهير أن الهدف من وجود الجماعة هو الاصطفاف مع الناس في معركة الحرية والتنمية والكرامة والاستقلال الوطني والتوزيع العادل للثروة والسلطة، وأن عودة مرسي للحكم ليست الهدف المنشود!
82A71C78-45BA-4ED2-9C18-5B9002AF290B
ياسر الدكاني

صحافي مصري ورئيس قسم الشؤون الخارجية بجريدة الجمهورية.. مهموم بجواهر القيم الإسلامية المتمثلة في العدل الاجتماعي والحرية والتنمية والكرامة الإنسانية.

مدونات أخرى