كان عدواناً لكنه لم يكن غادراً
كان عدواناً لكنه لم يكن غادراً
"أعتقد بأنه لا مفر من صدام مسلح بين الجمهورية العربية المتحدة وبين العدو الإسرائيلي، وهذا الصدام المسلح قد يقع في أي وقت وفي أي مكان على طول خط المواجهة بين القوات المسلحة المصرية وبين قوات العدو الإسرائيلي في البر أو الجو أو البحر... من هنا أقول إن اسرائيل لا بد لها أن تلجأ إلى السلاح. ومن هنا أقول: إنه لا مفر من صدام مسلح بين الجمهورية العربية المتحدة وبين العدو الإسرائيلي، الملاحظة الثانية ولا بد أن نقولها من الآن وهي أنه لا بد لنا أن نتوقع أن يوجه العدو إلينا الضربة الأولى في المعركة، لكنه يتعين علينا ونحن ننتظر الضربة الأولى من العدو أن نقلل إلى أقصى حد مستطاع من تأثيرها، ثم تكون
الضربة الثانية في المعركة، وهي ضربتنا الموجهة إليه ـ ردا وردعا ـ ضربة مؤثرة إلى أبعد حد مستطاع.... ولتبدأ إسرائيل، ولتكن بعدها ضربتنا الثانية متحفزة وقاضية".
بالطبع لم يجرؤ أحد في بر مصر بعد نشر هذا الكلام، ولو من باب "ليطمئن قلبي"، عما إذا كانت البلاد حقا مستعدة لاستقبال الضربة الأولى، وقادرة على توجيه الضربة الثانية، لأن التشكيك في جاهزية القيادة الحكيمة وقدراتها المؤكدة، في محفل عام أو خاص، كان سبباً مؤكداً للاتهام بالخيانة العظمى وخراب البيوت المستعجل، ولذلك لم يكن أحد ليجرؤ على أن يسأل محمد حسنين هيكل عن مصدر ثقته الأكيدة في حتمية هزيمة إسرائيل في المواجهة العسكرية القادمة، تلك الثقة التي جعلته يكتب لاحقاً في مقاله المنشور في صدر صحيفة (الأهرام) بتاريخ 2 يونيو 1967: "والوزارة الإسرائيلية أو بعض عناصرها بعد كل ما تورطت فيه أمام ضغط المؤسسة العسكرية توشك أن تكون كبش فداء لموقف ترددت قبل أن تتحمل مسؤوليته، وليس أمامها مجال كبير للحركة، إما أن تخضع وإما الانقلاب، إما أن تضرب إسرائيل لكي تكسر الحصار العربي حولها، وإما أن لا تضرب وتنكسر إسرائيل من الداخل، مهما يكن وبدون محاولة لاستباق الحوادث فإن إسرائيل مقبلة على عملية انكسار تكاد تكون محققة، سواء من الداخل أو من الخارج".
ليس هناك أدنى شك أن كل الذين قرأوا هذا الكلام يومها، كانوا متأكدين أن هيكل يدرك قطعا ما يقوله، وأن جمال عبد الناصر يعرف طبعا ما يفعله، ولعل عبد الناصر اتصل بهيكل يومها وهنأه على براعته في صياغة ما تحدثا عنه بالأمس، ولعله اتصل بعبد الحكيم عامر بعدها ليسأله عن أخبار الاستعدادات القتالية فكرر له عبارته الشهيرة القاتلة "برقبتي يا ريس"، ولعل الضباط والجنود الذين سالت دماؤهم على تراب سيناء بعدها بأيام اطمأنوا بدورهم لما قرأوه في مقال المعبر عن مواقف وآراء كبير علية القوم، وأسكتوا به أسئلة ربما دارت لدى بعضهم عما يرونه محيطا بهم في مواقعهم ومعسكراتهم من عك وهرجلة.
مع الأسى، لم يكن أحد مستعدا للضربة الإسرائيلية الأولى، ولم يسأل أحد لماذا تأخرت الضربة المصرية الثانية حتى فات أوانها، ولم يعرف أحد حقا ما الذي جرى في كل الضربات سابقها ولاحقها، ولم يطالب أحد بمحاسبة كل من قصّر أو كذب أو أهمل أو ربما تآمر، والمعركة التي كان صوتها سببا في إخراس باقي الأصوات المغايرة قبل الهزيمة، استبدلت فيما بعد بصوت السلام، ثم بصوت الاستقرار، والآن بصوت الحفاظ على الدولة، وغاية ما هنالك أن البلاد انتقلت من عهد "برقبتي يا ريس" إلى عهد "اسمعوا كلامي أنا بس"، وظل كثير من أهلها يتصورون أن من يحكمهم يعرف قطعا ما يفعله، ويعتقدون أن من يطالب بمساءلته أو محاسبته خونة وعملاء ومتآمرون، وعبارة "العدوان الغادر الغاشم" لم تعد تخص العدو القديم الذي صار حليفاً استراتيجياً وشريكاً أمنياً واقتصادياً، لكنها ما زالت في الوقت نفسه صالحة للهروب من مسؤوليات الإهمال والتقصير، وأنكى وأمرّ ما في الأمر، أن ملايين المواطنين الذين يدفعون غالباً ثمن أي عدوان أو إهمال أو إجرام، لا يزال أغلبهم يعتقدون أن الثقة العمياء في أولي الأمر وإخراس الألسنة المعارضة التي لا تلهج بالـ "تمام يا فندم" هو وحده طريق الخلاص.
أو كما قال أحمد فؤاد نجم: "وانشالله يخربها مداين عبد الجبار".