قطر... أول أيام الحصار

قطر... أول أيام الحصار

03 يونيو 2019
+ الخط -
صباح يوم 5 يونيو/ حزيران 2017، فتحت "فيسبوك" كعادتي عندما أستيقظ، فوقعت عيناي على خبر مفزع عنوانه: "4 دول عربية تفرض حصاراً برياً وبحرياً وجوياً على قطر، بزعم دعم الإرهاب"، كنت لا أزال بين الصحيان والنوم.

فركت عينيّ غير مصدق ما قرأت، قفزت من السرير، فتحت التلفاز لأتأكد من العنوان الصادم، وبسرعة انتقلت بين القنوات الفضائية، وجدت أنه الخبر الأول والرئيسي في معظم وسائل الإعلام العربية والعالمية (الجزيرة - العربية - سكاي نيوز - سي أن أن - بي بي سي - يورو نيوز - روسيا اليوم).. وغيرها.

جميع القنوات ألغت البرامج المعتادة وفتحت الهواء واستضافت محللين وخبراء للتحليل والنقاش، فالحادث جد خطير ويستحق المتابعة، خاصة وأن هذه هي المرة الأولى التي تفرض فيها دول عربية وخليجية هذا الحصار الشامل على دولة عضو في مجلس التعاون الخليجي، شعرت بالصداع من صراخ المذيعين والمحللين والتحليلات المتناقضة والكلمات غير اللائقة، موجة عداء شديدة ضد قطر من قبل القنوات المحسوبة على السعودية والإمارات، تحريض قوي على الدوحة واقتصادها وحكومتها وشعبها، اتهامات ومزاعم وأكاذيب لا وجود لها على أرض الواقع.

ارتديت ملابسي، نزلت إلى الشارع بسرعة لأعرف ردة فعل الخبر الصادم، كانت الحركة تسير طبيعية، لا حركة غير عادية للسيارات والناس في الشوارع، الكل، كالعادة، ملتزمون بإشارات المرور، لا حركات استثنائية تختلف عن المألوف يومياً، ولا أفعال عصبية أو نرفزة أو تشنجات من قبل أحد.


نعم كانت توجد علامات استفهام مرسومة على وجوه الكثيرين ممن يقودون السيارات حولي، حزن وضيق على وجوه القطريين الذين صدمهم خبر محاصرة أشقاء لهم في شهر رمضان، شعور بالغدر وبأن الشقيق طعن شقيقه في ظهره، ولأن تلك هي الساعات الأولى للحصار فإن بعض من يقيم في الدوحة وضواحيها لا يصدقون ما يرد لهم من أخبار، ربما لا يريدون أن يصدقوا من الأصل أن أشقاء لهم في السعودية طردوا طلابا ومعتمرين قطريين، وأرغموا سعوديين على تطليق زوجاتهم القطريات، وأجبروا العاملين في الدوحة على ترك كل شيء والعودة لبلادهم اليوم وليس غدا، ربما لا يريدون أن يصدقوا أن أصولهم وثرواتهم ووحداتهم السكنية في دبي لن يستطيعوا الوصول إليها بعد اليوم.

وصلت إلى مقر عملي، وواصلت متابعة الفضائيات وأضفت لها وكالات الأنباء العالمية، ساعات اليوم تزداد إثارة بسبب غزارة وتدفق الأخبار، الماكينة الإعلامية في دول الحصار لا تزال تواصل تشويه صورة قطر بعنف غير مسبوق، تحولت شاشة هذه الماكينة إلى أخبار عاجلة ومثيرة من عينة: "مظاهرات عارمة في شوارع الدوحة متجهة نحو الديوان الأميري للإطاحة بالأمير"، "شباب قطر يقطعون كورنيش الدوحة ويسيطرون على المقار والمباني الحكومية"، "انقلاب في قطر على النظام الحاكم للبلاد"، "شباب قطريون يشعلون الإطارات في الشوارع لمنع وصول الجيش إلى مقار تجمع المتظاهرين"، "قوات الأمن القطرية تقمع المتظاهرين وتحاول تفريقهم".

ما هذا الذي أسمع وأرى، بسرعة أنظر من نافذة طابق علوي من المبني الزجاجي الذي أعمل فيه، فلا أرى مظاهرات عارمة ولا حتى خمسة أشخاص يقفون في ميدان الخليج الغربي المطل عليه المبنى، أسرعت للناحية الأخرى من المبنى الزجاجي المطلة على كورنيش الدوحة، فلا أرى سوى سيارات تسير في الشارع مثل كل يوم، لا حشود تتدفق نحو الديوان الأميري ولا حتى بضعة أشخاص يقفون في الشمس الحارقة في نهار شهر رمضان.

يوم ثقيل مشحون بعلامات الاستفهام والتعجب التي تتزايد بعد أن تشاهد أن الآلة الإعلامية المناهضة لقطر تصنع انقلاباً ومظاهرات وهمية، وتصنع أحداثا جساما غير موجودة على أرض الواقع، تنشر صوراً من احتفالات القطريين باليوم الرياضي وهم يسيرون على الكورنيش في الثلاثاء الثاني من شهر فبراير/ شباط، كل عام، وتزعم أنها مظاهرات عارمة حول الديوان الأميري، تشفق على هذا الإعلام الذي راح ينشر لقطات من مظاهرات للشيعة في شرق السعودية والبحرين على أنها تحدث للتو في الدوحة.

الإرهاق يتسرب إلى كل قطعة من جسدي خاصة رأسي التي لا تكاد تصدق ما وصل إليه الإعلام العربي من صناعة أخبار ملفقة، يزداد الصداع بسبب التركيز الشديد على أحداث حصار قطر الجارية والانتقال بسرعة من وسائل إعلام دول الحصار إلى وسائل الإعلام الداعمة لقطر، كنت أريد أن أسمع كل الروايات وكل وجهات النظر، أتعرف على أسلوب التغطية حتى يكون حكمي على الأمور سليما، لكن بشكل عام لم أشعر بالقلق رغم أنني انتهيت للتو من قراءة تقرير على موقع قناة أميركية شهيرة مفاده أن السعودية والإمارات تستعدان لغزو قطر براً وبحراً وجواً.

غادرت المكتب، ولم أتوقف عن متابعة الأخبار عبر محطات الجزيرة وبي بي سي ومونت كارلو والحرة الإذاعية، أدرت محرك السيارة ببطء شديد، قدماي تمتدان أيضا ببطء للدواسة، لا تريد أن تضغط على البنزين، الوقت يتحرك سريعا رغم أن النهار لا يريد أن يطوي أول يوم للحصار، أخيرا تحركت السيارة لكن ببطء.

في أقل من دقيقة وصلت إلى أول إشارة مرور، عدد السيارات والمارة في الشارع كالمعتاد، أنتقل من محطة إذاعية لأخرى، أخبار تتحدث عن اختفاء السلع من كل أرفف محال قطر التجارية، لا يوجد زبادي أو عصير أو خبز أو سكر أو زيت أو سجائر، الأدوية اختفت من الصيدليات.

صوت مكالمة تليفونية يغطي على صوت المذياع، نظرت إلى التليفون المحمول، فإذا باتصال من القاهرة، كان المتصل أخي الأكبر، سألني دون سلام أو كلام أو مقدمات على غير عادته: "أين أنت"؟، قلت له "في الشارع"، قال بنبرة عالية لم أتعودها: "كيف تسير في الشارع وقوات الأمن مغلقة كل الشوارع والميادين وهناك حظر شامل في البلاد، ألا تخاف من الاعتقال؟ كيف تسير هكذا والمدرعات والدبابات تغلق كل الشوارع؟"، هنا ضحكت بشكل هستيري ربما لم أفعله منذ سنوات.

سألته: "أين سمعت هذا الكلام؟"، فقال: "حالا من أحد المذيعين المشهورين"، فأكدت له أن هذا الكلام فارغ، وفتحت له شباك السيارة حتى يسمع المارة من حولي، وصورت له الشارع بكاميرا الموبايل حتى يطمئن أكثر، شعرت بعدها أنه اطمأن قليلا، لكنه باغتني بسؤال: "طيب ماذا تأكل، هل لديك حليب وألبان"، قلت له: "خير ربنا كثير في الثلاجة"، فقال: "الفضائيات تؤكد أن الأغذية اختفت من المحال التجارية في اليوم الأول للحصار وأنه لن يصل إلى قطر طعام أو قطعة خبز بعد اليوم حتى تستسلم لكل الشروط، كيف ستتصرف في هذه الحالة، من أين ستأكل؟ أنصحك بأن تغادر الدوحة على الفور".

أنهيت المكالمة بعد أن طمأنت أخي على أن كل هذه أكاذيب، وأن كل شيء موجود ومتوافر، ولا يوجد أي نقص في الأغذية، وأن الثلاجة مليئة بالزبادي، ونعم الله كثيرة والحمد لله.

أعدت إشعال المذياع مرة أخرى، حزمة جديدة من الأخبار المثيرة: "توافُد القطريين والمقيمين على بنوك قطر لسحب أموالهم وتحويلها إلى الخارج، انهيار في العملة القطرية الريال مقابل الدولار، "انهيار في البورصة القطرية واللون الأحمر يكسو مؤشراتها والمستثمرون يهربون"، "أزمة سيولة عنيفة في بنوك قطر"، "البنوك تمتنع عن تحويل الأموال إلى الخارج"، "هروب الاستثمارات الأجنبية من قطر"، "المستثمرون القطريون وكبار رجال الأعمال يهربون بطائراتهم الخاصة"، "تهاوي أسعار سندات قطر الخارجية، انهيار احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي".

في تلك اللحظة، قررت تغيير مساري حيث كنت أخطط للعودة إلى المنزل، قررت التوجه لمقار عدد من البنوك لأتأكد بنفسي من مدى دقة هذه الأخبار، دخلت على موظف ببنك أجنبي لا أتعامل معه أصلا، قلت له: "أريد أن أحول أموالي إلى الخارج"، وكانت الإجابة سريعة: "تمام.. زودنا برقم الحساب المصرفي الذي تريد أن تحول إليه أموالك في الخارج، والمبلغ سيتم تحويله خلال دقيقتين"، ولأنه لا يوجد لي حساب أصلا في هذا البنك، قلت له: "سأفكر في الأمر وسأعود إليك باكرا"، ولم أعد بالطبع، وقبل أن أغادر سألته عن سعر الصرف الذي على أساسه سيتم تحويل أموالي إلى الخارج، فرد الموظف نفس السعر السابق.. لا تغيير، ولا عمولات إضافية.

ذهبت إلى بنوك أخرى منها البنك الذي أتعامل معه، وكانت كل الإجابات متشابهة، لا قيود على تحويل الأموال، لا قيود على سحب الودائع، لا تغيرات في شروط الحصول على قروض، لا توجد قيود على عمليات السحب النقدي بأي عملات أجنبية.

نظرت إلى الشاشات الموجودة في وسط وأمام الفروع بنوك لأعرف حجم التغير في سعر صرف الدولار مقابل الجنيه، فوجدت أن السعر ثابت كما هو سعر أمس.

قررت العودة إلى سيارتي للتوجه إلى المنزل بعد هذه الجولة الميدانية في البنوك وقبلها العمل لساعات طوال، لكن سألت نفسي: ماذا عن توافر السلع، لا بد من أن أتأكد بنفسي من المحال التجارية، في نفس المبنى الذي كانت توجد به مقار البنوك كان يوجد مول تجاري ضخم، دخلته واشتريت منه احتياجاتي العادية، لاحظت أنه لا نقص في الأغذية سوى في الألبان والعصائر القادمة من السعودية والتي تم إحلالها خلال أيام معدودة بعصائر وألبان من الكويت ولبنان والأردن وتركيا واليونان والهند وغيرها.

عدت إلى السيارة التي كانت موجودة في كراج المول التجاري، اتجهت بعدها الى كورنيش الدوحة لأتأكد من جموع المتظاهرين التي تتحدث عنها القنوات المحسوبة على السعودية والإمارات، فلم أجد سوى مارة يتريضون على الكورنيش كالعادة، وآخرين يجلسون على الشاطئ يستمتعون بالمياه الزرقاء والقوارب الخشبية المضاءة بكل الألوان.

أدرت محرك المذياع، جديد الأخبار هذه المرة تتحدث عن مقر الحكم في قطر، فهناك عناصر من حركة حماس وحزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني يحرسون الديوان الأميري ويحولون دون سقوط مقر الحكم بيد المتظاهرين، ركنت السيارة في الجهة المقابلة للديوان حيث كورنيش الدوحة، توجهت نحو الجانب الآخر حيث مقر الديوان الأميري، اقتربت من سور القصر فلم أرَ أي أحد كالعادة، كل ما شاهدته مجموعة من الكاميرات المثبتة على سور الديوان لأغراض الحراسة. مددت بصري إلى داخل الديوان فلم أجد حتى عسكريا واحدا في مرمى البصر، لا من القطريين ولا من حزب الله والحرس الثوري كما كانت تزعم القنوات المحسوبة على دول الحصار.

عدت إلى بيتي بعد يوم مرهق، قررت التوقف عن مشاهدة كل القنوات الفضائية التي خصصت كل وقتها وبرامجها للحديث عن حصار قطر وتغيير النظام الحاكم بها، بحثت عن فيلم رومانسي، وقد كان، فقد وجدت فيلم "حبيبي دائما" للرائعين نور الشريف وبوسي والمحبب إلى قلبي، تناولت العشاء، وكان عبارة عن كوب من الزبادي وطبق سلطة خضراء وقطعة من الجبن المصري، بعدها نمت يوماً عميقاً بعد أن أدركت أن الحصار فشل قبل أن يبدأ.
مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، مسؤول قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".