كلام ساكت!

كلام ساكت!

26 يونيو 2019
+ الخط -
حمل الأسبوع الماضي موقفين متقاربين، خرجا من بيت واحد وتقاربا في الأداة، بينما اختلفا في ردود الأفعال، والبيت الذي جمعهما كان هيئة الإذاعة البريطانية BBC، والأداة اللسان؛ فإن البلاء موكلٌ بالمنطق، ودع عنك الجملة وخذ التفاصيل.

الموقف الأول جاء على شاشة BBC2، يوم الاثنين 10 يونيو/ حزيران الجاري، وبينما تناقش فيكتوريا ديربيشاير مع ضيوفها "من يكون زعيم حزب المحافظين المقبل؟"، توجهت ديربيشاير بسؤال إلى المحافظ ستيف برين قائلة "أنت تقول إن الرجل الذي تدعمه جيريمي"، حتى هذه اللحظة لا شيء يبدو محرجًا أو غريبًا على الإطلاق، لكن ديربيشاير نطقت الاسم الأخير بشكل غير صحيح، ومن هنا جاء اللغط!

قصدت ديربيشاير أن تقول (جيريمي هنت Jeremy Hunt) لكنها نطقت حرف (C) بدلًا من (H)؛ فتحول الاسم الأخير للرجل إلى أحد مرادفات العضو التناسلي الأنثوي! وبكل لباقة وصراحة، اعتذرت ديربيشاير مباشرةً ومن دون مواربة، وقالت بالحرف "أنا آسفة للغاية! جيريمي هنت، لم أقل ذلك من قبل في حياتي. عادةً ما يقول الرجال ذلك، فأنا حقًا أعتذر للجميع".


أرادت ديربيشاير التأكيد أنها لم تقصد هذا التحويل، وإنما كان مجرد خطأ غير متعمّد وزلة لسان، كما أن بعض خصوم هنت - وزير الخارجية البريطانية الحالي - قد يتعمدون ذلك إحراجًا له، لكنها سيدة ولم تفكر في ذلك مطلقًا. الأخطاء واردة في كل مجال لا شك، والتعامل مع الموقف باحترافية وثقة ينسخ الخطأ، ويكسب المرء احترام جمهوره كما يعزز ثقته بنفسه.

لم تكن ديربيشاير أول من ينطق اسم هنت بهذا الشكل، لكنها أول سيدة/ مذيعة تخطئ في نطقه بهذا الشكل؛ فقبل ديربيشاير، أخطأ زميلها جيمس نوتي نفس الخطأ يوم أن كان هنت وزيرًا للثقافة، ووقع في الفخ نفسه زميلهما جاستن ويب حين تولى هنت حقيبة الرعاية الصحية والاجتماعية. وضع اعتذار ديربيشاير حدًا لكثير من الأقاويل والتفسيرات والتكهنات التي ربما تغمز في قناة ديربيشاير، وتتهمها بالنيل من الرجل أمام الرأي العام.

لا علم لي بمشاعر جيريمي هنت حينها، ولا لحظة أن أخطأ جيمس ويب وجاستن ويب تهجئة اسمه، ولربما يشعر بمرارات مضاعفة التركيز عندما يتعمد أحد خصومه نطق الاسم بهذا الشكل! ربما يغضّ الطرف على القذى، أو ينفعل ولو انفعالات مكتومة، وقد يكون هذا الأمر يسبب له عقدة ما بصورة أو بأخرى. لم أتحدث إليه بهذا التعريض من الخصوم أو الخطأ العرضي من مقدمي البرامج، لكنني أذكر شخصية مصرية لها موقف مشابه.

يقول إحسان عبد القدوس "عانيت كثيرًا في طفولتي، كنت كلما تشاجرت مع الأولاد في الشارع، يجرون ورائي وهم يرددون (البنوته أهو.. البنوته أهو)، لماذا؟! لأن اسمي إحسان، وإحسان اسم يطلق على البنات، ولهذا كنت دائمًا - وأنا صغير - أسأل والدي ووالدتي (أنتو ليه سمتوني إحسان؟) ..."، ثم يواصل عبد القدوس ذكرياته الأليمة مع الاسم.

يقول "كانت والدتي - روز اليوسف - تقول لي إن صديقتها الممثلة إحسان كامل كانت تقف بجانبها أثناء الولادة؛ فأطلقت اسم صديقتها عليّ اعترافًا بفضلها! أما والدي فيحكي لي قصة أخرى، ويقول إن جدتي كانت تركية، واسم إحسان في تركيا يطلق على الأولاد، إحسان اسم مذكر في تركيا وليس مؤنثاً، وجدتي اختارت لي الاسم".

يعلّق إحسان على الموازنة بين قصتي اسمه ليصل إلى نتيجة مفادها "كلاهما يريد أن يخفّف عني وطأة الصدمة من الاسم، لكنني أميل لقصة أمي؛ فإن أبي كان يحبني كثيرًا وينتحل الأعذار لئلا تتضخم في نفسي عقدة هذا الاسم الأنثوي"، ثم يتجرع الغصص وهو يقول "وعندما بدأت الكتابة في الصحف والمجلات، كانت تصلني رسائل مكتوب عليها إلى الآنسة إحسان عبد القدوس".

أحمد الله أنه لم تكن للسيدة روز اليوسف صديقة باسم كوثر أو فتحية أو لبنى أو سعاد أو زينب وقت الولادة، وإلا لكان اسم الرجل أشد إحراجًا من إحسان، وبالتأكيد لا أقصد الإساءة أو التقليل من شأن هذه الأسماء الأنثوية، لكنما المراد أن منطق اختيار الاسم وفق قصة الأم يقتضي الحذر. وبينما بعض الأسماء تطلق على الجنسين ومنها على سبيل الذكر عصمت وإيمان ونهاد؛ فإن أسماء أخرى تعد ماركة مسجلة لأحد الجنسين فحسب.

انتقلنا من مدينة الضباب إلى القاهرة العامرة، والآن نعاود الرحلة إلى لندن، وهذه المرة يوم الخميس 13 يونيو/ حزيران - بعد ثلاثة أيام من زلة لسان ديربيشاير - فعبر راديو BBC4 ومن خلال البرنامج الكوميدي البدعة/ تخاريف Heresy كانت الفنانة الكوميدية جو براند (61 عامًا) ضيفة البرنامج، وسألتها المذيعة فيكتوريا كورين ميتشيل سؤالًا هزليًا، لكنما الإجابة زلزلت المملكة المتحدة، ولم تنته توابع هذا الزلزال حتى اللحظة!

لكن قبل أن نتطرق للسؤال وإجابته، اسمح لي أن أمهد لك الطريق - ولا عندك مانع؟ على كل حال السكوت علامة مهمة وإن لم تعن الموافقة بالضرورة - المسألة يا صديقي العزيز بدأت قبل مدة، مع التوتر الدائر في المملكة المتحدة حول الخروج من الاتحاد الأوروبي والمعروفة اختصارًا (بريكسيت)، هنا اختلفت الأحزاب حول مؤيد ومعارض، مسألة حيوية وبالتأكيد تحتمل تباين الآراء.

مع هذه الأجواء المشحونة، عبّر بعض البريطانيين عن سخطهم بطريقة "الميلك شيك"، بالبلدي (اللبن)، وإن كنا قديمًا نرمي لاعبي الكرة بالطماطم المعفنة والخضروات التالفة والبيض الفاسد، ونتأذى معهم من رائحة كبريتيد الهيدروجين (المسؤول عن رائحة البيض الفاسد)؛ فإن جمهور السياسة في بريطانيا يعتمد الآن على الميلك شيك، نقلة نوعية في التعبير عن الغضب والاحتقان السياسي.

وكان أول من جربوا عليه هذه الطريقة، تومي روبنسن، الشهر الماضي، في وارينغتون (شرق ليفربول)، ومن بعدها تتابعت هجمات الميلك شيك، وإن تكاثرت الظباء على خراشٍ في البيداء؛ فإن الميلك شيك تكاثر على الملابس الرسمية لبعض الساسة في المملكة المتحدة، وكل واحد ورزقه والدنيا حظوظ ومقامات، ومن يساوي بين خراشٍ وروبنسن وشركاه؟! وآخر من رشقوه بالميلك شيك - حتى كتابة هذه السطور على الأقل - هو نايغل فاراغ زعيم حزب البريكسيت، والآن ما رأيك أن ندخل الاستوديو ونتابع الحوار بين الحسناء فيكتوريا ميتشيل (46 عامًا) والأخت جو براند.

البرنامج كوميدي، واسمه يحمل لمحة عن مضمونه ومحتواه، ومعنى Heresy الهرطقة والبدعة، ما يعني أنه برنامج "هلس وكوميديا صرفة"، وهو برنامج قديم أذيعت أولى حلقاته يوم 31 ديسمبر/ كانون الأول 2003، وكان يقدمه ديفيد بادييل، ومن بعده حلت فيكتوريا ميتشيل. تسأل ميتشيل ضيفتها - وقبل أن تنسى فاسمها جو براند - عن هوجة الميلك شيك، ولا تفهم هل خان الحس الكوميدي الفنانة التي اعتلت الستين بدرجة واحدة، أم أنها هبدت هبدة في سياق الكوميديا والهرتلة الفورية؟

ردًا على سؤال حول الحالة السياسية القائمة، قالت جو براند: "لا أفهم لماذا يستخدمون الميلك شيك، إذا كان في مقدورهم أن يستعملوا حمض البطارية"، وتباينت الآراء في تفسير هذا الجواب بين نكتة سخيفة أو مبالغة كوميدية ليست أكثر من ذلك؛ فالبعض قال إن العجوز الشمطاء تحرّض الناس على استخدام مياه النار، وهذا تحريض صريح لاستعمال العنف وترويع للسياسيين، وانضوى تحت هذا اللواء كثيرون، منهم - بالطبع - نايغل فاراغ وتومي روبنسن، بل ومستويات حكومية أعلى.

ودخل المتحدث باسم رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، على الخط معبرًا عن استياء ماي، وأنها تطالب هيئة الإذاعة البريطانية بتفسير لما قالته جو براند. دخلت الحسناء ميتشل في وصلة ردح مع فاراغ على تويتر، ودافعت عن برنامجها وعن ضيفتها، ووصلت الشرطة 65 شكوى بحق جو براند، ورفضت براند الاعتذار قائلة "كانت مزحة! لا يُقصد أن تؤخذ على محمل الجد"، وأردفت ببرود أو هدوء أو بكليهما معًا "إن حرية التعبير في الكوميديا مهمة للغاية".

ماذا جرى في بي بي سي؟ الناس دي محسودة، اتحسدوا، خبطتهم عين جابت أجلهم، بالمؤكد تفسير منتقى (من الانتقاء) وإن لم يكن منطقياً، وإلا فكيف نفسر تغريدة جورج غالاوي التي أطاحت به وببرنامجه "ذا موذر أوف أوول توك شو" قبل أيام، ومن قبله داني بيكر مذيع إذاعة BBC5، والقائمة تطول! هذا التفسير أسهل من البحث في نظرة الأفعال الكلامية، وغيرها من الأسباب المنطقية؛ فالجهل نعمة، وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم.

لكنّ صوتًا لم أتبين مصدره، أصدر ما يشبه صوت اللحمية، ربما لم يرقه تفسير الحسد؛ فنحن فقط الذين استأثرنا بالحسد دون أمم الأرض، ثم سمعت منه قولًا أدعى للقبول؛ فقال الصوت والعهدة عليه (إذا المرء لم يخزن عليه لسانه/ فليس على شيءٍ سواه بأخزن)، قالها ثلاثًا وسكت.