ليس في "الجورة" ما يستحقّ الحياة

ليس في "الجورة" ما يستحقّ الحياة

24 يونيو 2019
+ الخط -
ملاحظة: تدور أحداث هذه القصة في المستقبل، إذ تتوقع الكاتبة فيها ما يمكن أن تؤول إليه الأزمة الاقتصادية في لبنان في الأيام المقبلة.

كانت قوة جامحة تائهة متهورة تشدّ بابنة العشرين وهي تغادر منزلها باتجاه "الجورة". وصلت هناء إلى أفقر الأحياء الشعبية المهمشة في لبنان، حاملة حقائب تكاد تتسع لكل شيء، ولا تتسع لذكريات خلفتها وراءها. فأدركت أن الأزمة الاقتصادية التي فتكت بلبنان قد بلغت ذروتها.

ليست الأزمة المالية وليدة اللحظة، إن جذورها تعود إلى التسعينيات حين دخل البلد المدمر في دوامة الدين العام. لكن الحديث عنها شاع، وبدأت ملامحها ترتسم على وجوه اللبنانيين البائسة. تماماً كوجه والد هناء منذ أن طاولته تسونامي البطالة، ليغرق في صومعة البطون الخاوية لزوجة وبنات خمس.

عندما وطأت قدما هناء حي الجورة الواقع في منطقة برج البراجنة في بيروت، حيث المنازل المتهالكة جدرانها تقبع في ثنايا العشوائيات، وجدت من شقاء أبناء الجورة وبؤسهم أرضية ملائمة لروايتها الجديدة.


كانت هناء عاطلة عن العمل حتى قبل أن تخيّم الأزمة وتتفشى البطالة بصورة مخيفة. فهي درست الهندسة المعمارية والأدب العربي، وتعلمت اللغة الإنكليزية، الفرنسية والروسية. وعدا عن ذكائها الباهر وموهبتها في الكتابة، لم تتوانَ عن السعي لتطوير قدراتها. لكنّ لبنان لا يكترث لكل هذه الكفاءات، يكفيه إيماناً بعبثية تكديس الشهادات.

لطالما جرت هناء أذيال الخيبة في بلد تحكمه الوساطات والمحسوبيات، لكنها ومع ذلك ظلت تؤمن بأن "على هذه الأرض ما يستحق الحياة". وكانت عاشقة الكتابة. تكتب لتقتل أبطالاً بات وجودهم عبئاً، وتخلق أبطالاً بات غيابهم عبئاً أيضاً. حتى وجدت في الأوراق متسعاً لتترجم مقولتها الشهيرة: "عندما توجد الإرادة يصبح الإنسان قادراً على تحقيق المعجزات".

للحظة ضاقت هناء ذرعاً بجدران منزلها، فانكبت على شرفتها، علّها تدخل إلى رئتيها بعضاً من الهواء وإن لم يكن نظيفاً. فجأة، يقتحم الأمن ويلقي القبض على عدد من الشبان المجتمعين في أحد المقاهي. لم يكن ذلك مشهدا غريبا على هناء التي أيقنت منذ أن عاشت في "الجورة" أن "مجرد أن يولد الواحد هنا يحكم عليه إما بدخول سجن رومية لخطيئة ارتكبها، وإما أن يبقى في "الجورة" بانتظار الدخول إلى رومية".

فالغارق في البطالة قد نظر نفسه للانغماس في الرذائل. ولا فرق بين المنازل التي سيألفها أبناء "الجورة". فرومية ليست غير جورة قد تزيد في خناقها، و"الجورة" ليست غير سجن وإن اتسعت جدرانها.

باتت "الجورة" ملجأ الهاربين من شبح الفقر والعوز، فزهد الحياة فيها كان يزيد من عدد اللاجئين كلما تدهورت الأوضاع الاقتصادية. وكانت حكايا قاطني الحي الكثيرة كلها من الطراز المأساوي، مادة دسمة لرواية هناء الجديدة.

كثيراً ما قُيدت هناء بالحكم على جرائم السرقة التي انتشرت كالوباء المعدي. فمن ذا الذي يحاسب العبد الفقير على رغيف خبز سرقه في لحظات الجوع الجائرة؟ تساءلت صاحبة الإرادة عن السبب الذي يجعلها حتى البتة لا تجوع. وكلما شاركت أباها تساؤلاتها، يبرر: "الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، أنني ادخرت قرشاً أبيض ليومنا الأسود هذا".

في غسق الدجى، وبينما كان العالم ينام بثقله فوق أجساد أبناء "الجورة" ولاجئيها، لم تنم هناء وهي تفكر باليوم الذي ستجوع فيه كما يجوع كل من حولها.

لوهلة، سمعت خطى والدها تتجه نحو الباب. لحقت به بحذر. وعرفت أنه في ذلك الوقت المتقدم من الليل، لا يمكن أن يكون طريق والدها المتعثر الخطى سوى باتجاه الهدف الوحيد الذي يجعلها لا تجوع.

بكت ابنة العشرين كثيراً، حتى محت بدموعها تلك الذكرى الأليمة. كما لو أنها رفضت أن تنهار صورة الوالد التقي المخلص، أو أن تصدق للحظة أن والدها قد سرق ليطعمهم، وأنها تأكل مالاً حراماً.

بدأ الناس يشعرون أنهم مخلوقات يعبث بهم ذوو الثروات. وما عاد الكلام جنحة والصوت العالي في وجه زعماء الطوائف جريمة تستدعي العقاب. كما ما عاد باستطاعة هؤلاء الزعماء الذين نهبوا لبنان لسنوات أن يسكتوا الشعب الجائع ويحركونه كحجارة الشطرنج كما يحلو لهم.

كانت الشوارع تغصّ بالمتظاهرين الناقمين على السياسيين كافة، من دون استثناء دين أو طائفة. أما هناء فكانت معروفة بطباعها الهادئة، تواكب التظاهرات عن كثب من "الجورة"، فتحمل أكثر فأكثر على السلطة الفاسدة، ويداخلها حزن دفين على ما يحلّ بشعب بلدها، لا تشرك به أحداً.

في خضم الشغب العارم، تواصلت التحذيرات بنشوب حرب أهلية في أوساط اللبنانيين، وكثر الحديث عن احتمال اندلاع حرب إسرائيلية أو تدخل قوى خارجية بحجة الأزمة المالية.

فكتبت هناء: "لسنا في سلام لنهاب الحرب. فمشهد الأطفال الجائعين لا يقل قسوة عن مشهد ضحايا الحروب والمجازر. نحن اليوم في حالة حرب استثنائية. وما يتوقعون أن يحِلّ لن يكون أكثر إيلاماً من ما نعيش".

هكذا ختمت هناء روايتها الجديدة التي سمّتها: ليس في "الجورة" ما يستحق الحياة.

B9E6026A-29A8-4305-923E-0F84195894EA
زينب علي حمود

صحافية لبنانية.. حائزة على إجازة في الصحافة من كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية، وأدرس الماجستير في الصحافة.